حرية الرأي في الصحافة السعودية
د.عبد العزيز محمد الدخيل
المقال الناقد هو تعبير عن وجهة نظر مبنية على التحليل المنطقي العلمي للموضوع. ويجب التفريق هنا بين المقال الناقد وبين الانتقاد. فالأول أي الناقدCRITIQUE يتعلق بالمنهج الذي يعتمد التفكيك والحفريات بحثاً عن القواعد المنطقية التي أقعد عليها الموضوع المنقود، والبراهين العلمية والإحصائية الداعمة لنتائجه وأحكامه. الانتقاد في الجانب الآخر مرتبط بالانطباع الشخصي، قوامه الانطباع المزاجي أو الانفعالي دون تحليل وتفكيك منطقي أو علمي لمكونات الموضوع وأجزائه وصولاً إلى نتائجه وتوصياته. المقال الناقد الذي أعنيه هنا هو المقال الناقد الصريح لموضوع يتعلق بالقضايا الجوهرية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
أكتب عندما يفيض الصدر بالأفكار المنطقية المشاغبة التي ترفض الانصياع والطاعة. أفكار تريد أن تخرج من رحم العقل والضمير، تريد أن تولد، أن ترى النور تنتقل بين عقول الناس تديرها نحو اتجاه منطقي عقلاني حر، وتحرك في فضائهم الفكري الجامد شكوك وحركة بحثاً عن استقرار وهدوء فكري في الفضاء المنطقي العلمي.
الكتابة أراها نقداً وليست انتقاداً، موضوعية وليست شخصية، لغتها تعتمد التحليل المنطقي والعلمي ومبادىء الأخلاق الإنسانية لما يجب أن تكون عليه الأمور. الكتابة الناقدة ريح تقتلع الغصون والأوراق الميتة من شجرة الحياة وشمعة تنير طريق الإنسان إلى الرقي الأخلاقي والمادي. البعض قد يرى في كتابة المقال وسيلة لإعلان الولاء والطاعة أومصدراً للقمة العيش يكتب مايريده ويرضى عنه الحاكم ونائبه حارس باب الصحيفة رئيس التحرير، وأراها غير ذلك تماماً.
المقال الناقد هو مكاني في ديوان الصحافة وهو الرابط بيني وبين حارس الكلمة في الصحيفة والمؤتمن على أمرها رئيس التحرير. ولرئيس التحرير في صحافتنا السعودية موقع هام فهو الذي بيده إجازة المقال أو رفضه كلياً أو جزئياً، وقد يقال أنه في هذا الدور لا يختلف عن رؤساء التحرير في الدول الأخرى فهذه مهنته وجوهر وظيفته. قد يبدو في هذا القول شيء من الصحة لكن إذا تجاوزنا ظاهر النص إلى باطنه وجدنا أن رئيس التحرير في الصحافة السعودية مكلف بتطبيق معيار ذي شقين الأول يتعلق بالمهنة الصحفية وقواعدها ومبادئها العالمية والأخلاقية، والاخر، وهو الأهم، معيار تحدد قواعده الرئيسية الأجهزة الأمنية والإعلامية الرسمية ويختار رئيس التحرير المناسب لتطبيق هذه القواعد. رئيس التحرير يجيز المقال الذي هو أقرب إلى تلك القواعد والمعايير الحكومية ويلغي ذلك المقال المتقاطع مع بعض أو كل تلك المعايير. بعض رؤساء التحرير قد يغفل عن مقال فيمر دون أن ينتبه إلى ما به من مخالفات للحدود والمساحات النظامية المسموح بها أو أنه يتغافل عنه ويغض الطرف إن أحس أن المقال لن يثير إشكالاً أو يلفت بال مسؤول، وفي هذه المرونة في التطبيق يختلف رؤساء التحرير. معظمهم صارم حازم يخضع كلمات المقال وجمله إلى المعاني والمترادفات خوفاً من كلمة هنا أوجملة هناك تقفز فوق الممنوع وتتخطى الحواجز وتغضب المسؤول. والبعض وهم القلة جداً يغضون الطرف قليلاً دون أن يتجاوزوا خطوطهم الحمر، وإن كثر منهم الصفح والعفو عن بعض مقالاتك جاءتهم رسالة من أعلى منبهة ومحذرة فيقفل الباب أمامك.
جميع رؤساء التحرير الذين كتبت في صحفهم كان لي معهم حكايات أخذ ورد، شد وجذب، ينتهي إما بنشر المقال إن استطعت إقناع رئيس التحرير ووافقت على إسقاط بعض الكلمات التي لا تمس جوهر الرسالة، وأما بمنع المقال من النشر إن رفضت تعديلاته التي ستضعف وهج النقد والتحليل الصريح للموضوع والنتائج التي أريد إيصالها للقارئ.
كانت بدايتي في الصحافة في السبعينيات من القرن الماضي كتبت عدة مقالات في صحيفة الرياض و الجزيرة و مجلة اليمامة تتعلق بالشأن الداخلي (بعض الجوانب الاقتصاديه للمشكلة الإسكانية) مجلة اليمامة في 26 ديسمبر 1974 وبالشأن الدولي (نظام النقد الدولي والأزمات المالية الدولية) جريدة الجزيرة 28 ديسمبر1971م وغيرها من المقالات.
في العام 1990م نشرت لي صحيفة الشرق الأوسط مقالاً بعنوان "الفرد والدولة والأمة في فوهة بركان الخليج العربي" بتاريخ 10 اكتوبر 1990م يتعلق بغزو العراق لدولة الكويت. كان رئيس التحريرآنذاك الأستاذ عثمان العمير. رسالتي في المقال كانت موجهة إلى الحكام في دول الخليج العربي، مفادها أنه كلما كان المواطن حراً راضياً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً عن حاله وأحواله في وطنه، كلما التف الشعب حول قيادته حامياً لها ومحافظاً عليها عندما تعصف بها العواصف وتريد اقتلاعها. وذكرت مثالاً على ذلك ما حصل بالكويت عندما أجلت القوات الغازية لصدام حسين أمراء البلاد وأخرجتهم من ديارهم، لكن الشعب لم يتخل عنهم بل التف حولهم في المهجر وعادوا معه إلى البلاد بعد تحريرها.
لم يرض مسؤول كبير عن المقال فهاتفني قائلاً "أرجو أن لا أكون منتقصاً من حريتك وأنا أحدثك في هذا الوقت، ثم قال هل يوم غد مناسب لك لكي نلتقي ونتحدث في الموضوع؟ فقلت يا طويل العمر الوقت الذي يناسبك. عرفت أن كلماته وأسلوبه تحتهما ما تحتهما من عدم الرضى. ذهبت إلى الاجتماع وكلي عزم على أن أقول ما لم يكن بالإمكان نشره في المقال. وعندما أفرغت ما في جعبتي وجدته مستاءً غاضباً من المقال ومن فحواه ومعناه ومما قلته. أحسست أن هذا سيكون آخر مقال لي في الصحيفة ولكي يطمئن قلبي أرسلت بمقال جديد إلى رئيس التحرير الأستاذ عثمان العمير فحدثني من مكتبه في لندن قائلاً "أخي عبدالعزيز لا أستطيع نشر المقال أعذرني فقد جبنت" احترمت الأخ عثمان وأكبرت فيه صراحته وتوقفت عن الكتابة في الشرق الأوسط.
في العام 1992 كنت أكتب في جريدة الحياة وكانت أيضاً تصدر من لندن ورئيس تحريرها في ذلك الوقت الأستاذ جهاد الخازن. كنت أكتب من وقت لآخر مقالاً على ذات النهج التحليلي النقدي للشأن الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، فهذه الأمور في مجال التنمية الشاملة مترابطة متلازمة. قال لي يومها الأستاذ جهاد الخازن "أخي عبدالعزيز أنت مقل في كتابتك كالديك الذي يبيض كل عام بيضة". قلت له أنا لن أكون دجاجة تبيض كل يوم ولكني سأظل ديكاً يبيض أكثر من بيضة في العام. في 9 يونيو 1993 نشرت لي الحياة مقالاً بعنوان"الديمقراطية والخطاب الإسلامي السياسي" وبسب المقال منعت الصحيفة من دخول المملكـة. اتصل بي من لندن رئيس التحرير جهاد الخازن وهو غاضب وقال لي أخي عبدالعزيز لقد منع وزير الإعلام معالي الأستاذ علي الشاعر، دخول الصحيفة إلى المملكة بسبب مقالك وقد حاولت معه بشتى الطرق إلا أنه أصر على عدم إجازة دخول الصحيفة ثم أردف قائلاً: أخي عبدالعزيز لقد تكبدنا خسارة مالية بسبب ضياع الإعلانات وغيرها. لم يرق لي هذا القول لأنني أرى أن الدفاع عن حرية الرأي يجب أن لا يكون ثمنه بخس، فرددت عليه قائلا: "يا أخي جهاد الصحيفة ليست هي الخاسرة إنما الخاسر من أوقف الكلمة الحرة في فم قائلها ".
في بداية الألفية الثانية انطلقت صحيفة الوطن من مدينة أبها بعسير، وكان رئيس تحريرها الأستاذ قينان الغامدي. طلب مني وهو عارف بمنهجي وأسلوبي، أن اكتب في الصحيفة فقبلت. ونشر لي مــع عددها الأول بتاريخ 29 سبتمبر 2000م مقالاً بعنــوان " قضية النفط والسلطة السياسية للمصدرين والمستهلكين" وكما كان الحال مع رؤساء التحريرالآخرين، كان لي مع الأستاذ قينان الغامدي ومن تعاقب على الصحيفة من رؤساء التحرير أخذ ورد. رئيس التحرير يحاول الحفاظ على خطوطه الحمراء وأنا أحاول أن أحمي روح المقال ونبضه من الاغتيال، الأستاذ قينان الغامدي عندما كان رئيساً للتحرير كان المد والجزر بيني وبينه قائماً في إجازة المقال والسماح بنشره لكن مشرطه كان أقل قطعاً وجزراً وكتفه أقوى وأشد لحمل الأثقال من غيره. خلف الأستاذ جمال خاشقجي قينان الغامدي رئيساً للتحرير فاشتبكت معه بخصوص مقال اقتصادي تحليلي نقدي، رأى الأستاذ جمال أنه قد يغضب الوزراء المعنين بالشأن المالي والاقتصادي فقال لي عندما لم أقبل بتعديلاته الجوهرية "أنا لا أستطيع إغضاب هؤلاء" فقلت له أنت رئيس التحرير ولك ما تريد أما أنا فلا أستطيع إغضاب ضميري ومبدئي ومن يقرأ لي. أنا صاحب المقال ولا أريده أن ينشر ميتاً بدون روح.
في منتصف عام 2011م اتصل بي الأستاذ قينان الغامدي، وقال لي سوف أكون رئيسا لتحرير صحيفة سعودية جديدة من المنطقة الشرقية اسمها "الشرق" وأريدك أن تكتب فيها، قلت له على الرحب والسعة ولكن أنت تعرف أن مقالاتي ذوات دم ثقيل على المسؤولين، ثانياً أنا لم يسبق لي أن التزمت ككاتب رأي منتظم، فأنا أكتب عندما يولد الموضوع في ضميري ويبدأ الفكر في تقليبه ووزنه ثم تنضج الفكرة مقالاً. قال لي بالنسبة للأولى أنا أعرف مقالاتك جيداً سيكون بيني وبينك نقاش على المحتوى إن كان هناك ضرورة للنقاش وإن لم أقنعك فلك الحق في عدم نشره، قلت قبلت على أن لا يمس قلم التحرير في الصحيفة المقال إضافة أو إلغاء دون موافقتي، قال ولك ما تريد. قال أما بالنسبة للانتظام يكفيني مقالاً في الأسبوع قلت قبلت. ولكي أختبر وعده كان مقالي الأول الذي نشر في اليوم الأول لصحيفة الشرق بتاريخ 5 ديسمبر2011 م بعنوان "حرية الرأي". أوفي قينان بوعده ونشر المقال. ظل مقالي يظهر في صحيفة الشرق كل يوم اثنين من كل أسبوع ولمدة عامين تقريباً وكان آخر مقال بتاريخ 4 فبراير2013م وبعنوان "المستقبل المجهول يصنعه حاضر غير سوي".
كانت تجربتي مع قينان والشرق غنية بالنقاش والتحليل، المقال يرفضه نائب الرئيس، أفشل في اقناعه ويفشل في اقناعي فيحيل المشكلة إلى رئيس التحرير ويستمر الحديث بعمق أكبر وفكر أوسع نصل في جميع الحالات إلى اتفاق يحافظ على روح المقال وطبيعته الناقدة الهادفة ولا يقطع الخطوط الحمراء الرئيسية وينشر المقال. كان الرجل مؤمناً بحرية الرأي وراغباً في رفع سقف الحرية الصحفية ومستعداً لتحمل تبعاتها. رئيس التحرير قينان الغامدي كان يتعرض إلى ضغوط ومساءلات من جهات رسمية بسبب مقالاتي ومقالات غيري من الزملاء كتاب الرأي. وفجأة علمت من الأخ قينان أنه قد عزل من رئاسة التحرير وعين بشكل مؤقت بدلاً منه الأستاذ جاسر الجاسر. ظهرت تكهنات كثيرة عن أسباب إقالته ذكر منها مقالاتي التي كانت تنشرها الصحيفة لكن الصحيفة كانت أيضاً منبراً جيداً لمقالات جريئة أخرى بما فيها مقالاته هو، دفعت بسقف حرية الرأي في الصحافة السعودية قليلاً إلى أعلى.
ارسلت مقالي الأسبوعي على عادتي إلى صحيفة الشرق التى أصبح الأستاذ جاسر الجاسر رئيس تحريرها المكلف، لكن المقال لم ينشر. حاولت الاتصال به عدة مرات فلم يجب وتحدثت مع نواب الرئيس وطلبت منهم أن يخبروه أني أريد أن أفهم رفضه نشر المقال، فأخبروه لكنه لم يجب على مكالماتي ولاذ بالصمت. عندها كان واضحاً لي أن الرجل لديه تعليمات بعدم نشر مقالاتي وعليه تنفيذها ولا يستطيع البوح بذلك إن أجاب على مكالماتي. بعد عام كلف الأستاذ سعد معتوق الزهراني بالعمل رئيساً لتحرير صحيقة الشرق فاتصل بي أحد الإخوة من هيئة التحريرفي الصحيفة وقال لماذا لا تعود إلى الكتابة؟ لأنه، حسب رأيه، فإن رئيس التحرير المكلف الجديد قد يكون لديه قبولاً أكثر لمقالاتي. وبالفعل نشر لي ثلاث مقالات هي على التوالي" لكي لا نقع في الهاوية "بتاريخ 10 مارس 2014 م و"هل السقوط في الهاوية أمر محتوم" بتاريخ 18 مارس 2014 م و"المالية العامة للدولة وأحوالها" بتاريخ 24 مارس 2014 م. بعدها أنهي تكليف الأستاذ سعيد معتوق الزهراني من رئاسة التحرير وعين بدلاً منه الأستاذ خالد بوعلي فعادت الأمور كما كانت عليه في حقبة الأستاذ جاسر الجاسر، وأوقف نشر مقالاتي.
عندما توقفت صحيفة الشرق عن نشر مقالاتي في شهر فبرايرعام 2013 م اتصل بي الدكتور بدر الابراهيم رئيس تحرير الصحيفة السعوديــة الالكترونية (المقال) مرحباً بي في صحيفته الإلكترونية، فشكرته وفعــلاً نشرت لي الصحيفة مقالاً بعنوان " قينان بين المقال الأول والأخير " بتاريخ 15 فبراير 2013 م ومقالاً بعنوان "عندما يتفق الليبرالي والفقيه" بتاريخ 5 مارس 2013 م. وعندما فتحت لي صحيفة الشرق أبوابها مع الأستاذ رئيس التحرير المكلف سعد الزهراني نشرت فيها ثلاث مقالات كما ورد أعلاه ثم أقفــل الباب مع تعين الأستاذ خالد بوعلي فعدت إلى الدكتور بدر الابراهيم وصحيفتــه الالكترونيـــة (المقال) ونشرت فيها مقالاً بعنوان "اقتصاديات توسعة الحرمين الشريفين" بتاريخ 4 ابريل 2014. ثم توقفت الصحيفة الإلكترونية عن الصدور.
في هذه الأثناء (2014م) ظهرت صحيفة جديده باسم (مكة) يرأس تحريرها الدكتور عثمان الصيني، الذي سبق لي أن عرفته عندما كان نائباً لرئيس التحرير في صحيفة الوطن . كنت أبحث وقتها عن صحيفة مطبوعة تنشر مقالاتي، فحدثته عن رغبتي فرحب فأرسلت له مقالاً بعنوان "عذراً يا معالي الوزير فخطوط دفاعك لا تحمي" روجع المقال من قبل رئيس التحرير ونوابه وأعيد إلي المقال والدماء الحمر تسيل من كل جنباته بفعل مشرط رئيس التحرير ومساعديه فتذكرت بيت الشعر العربي (المستجير بعمروعند كربته - كاالمستجير من الرمضاء بالنار). فعدت ونشرت المقال في الصحيفة الإلكترونية (المقال) تلك النافذة التي كانت بمثابة أنبوبة الأوكسجين عندما تختنق. لكن حتى هذه النافذة قفلت ولم تعد موجودة.
في 29 من شهر سبتمبرمن العام 2014م أرسلت مقالاً لرئيس تحريرالجزيرة الأستاذ خالد المالك بعنوان "لكي لاتتوقف أعياد الوطن حذاري من المستقبل الاقتصادي" وبعد أن اطلع على المقال بعث لي برسالة في اليوم ذاته قال فيها "أخي د. عبدالعزيز وصلني المقال وكان متشائماً كباقي مقالاتك فأعتذر لعدم إمكانية نشره" فرددت عليه في لحظتها برسالة قلت فيها "تحياتي لأخي خالد. صحيح أن مقالاتي لا تدخل في باب المديح وذر الرماد في العيون والخوف من قول كلمة الحق كما أراها. أنا كما قلت لك سابقاً أتفهم موقفك وأعرف أن المشكلة ليست في المقال ولكن في المقياس الذي حددته السلطة لك ولكل رئيس تحرير لإجازة أي مقال. أنا كما أقول دائماً حزين على ما يحدث في هذا المجال لكنني لن أتوقف وسيبقى الأمل فوق اليأس ولك من أخيك كل المحبة" فرد علي قائلا :" أحترم وجهة نظرك لك التقدير".
في أغسطس من العام 2014 م أرسلت بمقال عنوانه "القضية الفلسطينية ومرحلة مابعد حرب غزة 2014" إلى رئيس تحرير جريدة الحياة الأستاذ غسان شربل وعندما تأخر نشر المقال أو الرد اتصلت بمكتب رئيس التحرير باحثاً عن مصير المقال المرسل للنشر،فورد لي بعد مدة قصيرة رسالة تقول " تلقينا مقالكم بعث القضية الفلسطينية ومرحلة مابعد حرب غزة 2014 نعتذر عن عدم النشر" فرددت برسالة قلت فيها " أرجو إبلاغ الأخ الكريم غسان شربل رئيس التحريرعدم استغرابي لقرارعدم نشر المقال لأنه لابد لقراركم أن يكون منسجماً مع الأسف مع حرية الصحافة التي تتمتع بها الصحف السعودية أوحتى بنات عمها مثل صحيفة الحياة وإن نشرتم تعليقي هذا أكون لكم من الشاكرين" حسب علمي لم ينشر التعليق لكني نشرت المقال في الصحيفة الالكترونية المقال بتاريخ 22 اغسطس 2014 م ووضعت رسالتي إلى الأستاذ غسان شربل في المقدمة.
اليوم لا توجد صحيفة مطبوعة أستطيع نشر مقالاتي بها. العلة كما أعتقد ليست شخصية ولو كانت كذلك لهانت فالمقال الصريح الناقد المنطقي العلمي له رجاله ونسائه في عالم الصحافة السعودية، لكنني موقن أن الأمر يتعلق أساسا بحرية الرأي . لم أسمع من رئيس تحرير رفضه استلام مقالاتي إلا في حالة صحيفة الشرق بعد إقالة الأستاذ قينان وتكليف الأستاذ الجاسر. لكن العلة التي تمنع رؤساء التحريرالذين جئت على أسمائهم من نشر مقالاتي هو موضوع وأسلوب المقال ورفضي اقتلاع الأشواك منه.
كتبت في الصحافة منذ ما يزيد على الأربعين عاماً لم يكن في أي من تلك المقالات مايشير إلى (الأنا). هذا المقال مليء بالأنا، ترددت كثيراً في كتابته خشية أن يقال هذا تضخيم للذات. لكنني من جهة أخرى، وأمام موضوع هام جداً ومسكوت عنه جداً يتعلق بحرية الرأي، شعرت أن القضية تتطلب الإقدام ولو على حساب إساءة فهم القصد من البعض. دفعني إلى ذلك أيضاً أمران أولهما أن (الأنا) مرتبطة بتسلسل الأحداث و توثيقها بالاسم والموضوع فكان لزاماً أن تظهر الأنا وثانياً أن كل الذين يمثلون (الآخر)، أي رؤساء التحرير، هم على قيد الحياة ويستطيعون الرد والتعليق.
حرية الصحافة عمود أساسي من أعمدة الإصلاح المجتمعي في جميع نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذا العمود يشتد بنيانه وتقوى مكانته في المجتمعات التي تكون الحرية بشكل عام، وحرية الرأي بشكل خاص، مكفولة بالدستور ومحمية بالقانون ومدعومة بالمجتمع المدني. وتضعف قوة هذا العمود ومكانته ودوره في الإصلاح عندما يقذف القانون والسلطة والمجتمع بحق المواطن في حرية الرأي إلى الصفوف الخلفية لأسباب كثيرة. لذا فلا عجب أن نرى الدول المتقدمة حضارياً وعلمياً ضمن المجموعة الأولى الحامية لحرية الرأي وتلك المتخلفة عن الركب في المجموعة الثانية المعتقلة لحرية الرأي .
حرية الرأي في الصحافة السعودية ليست شيئاً مادياً قائماً بذاته بل هي نموذج حياة وتعامل في عالم الصحافة ومجتمعها، مرتبط بشكل أساسي بنسق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد. رؤساء التحرير هم من أهم مكونات وأدوات الحياة الصحفية في المملكة العربية السعودية، هم جزء من هذا النسيج ولا يستطيعون كسر حدوده وتجاوز خطوطه إلا ما ندر. لذا فإن أغضبني عدم نشر بعض من مقالاتي بأمر من رئيس التحرير فإنني أعتقد أنه يساق إلى القرار ليس إيماناً منه بقمع حرية الرأي بقدر ما هو انصياع لقواعد الوظيفة. لذا وإن كنت أحيل الأمر إلى الجانب الوظيفي وليس الشخصي إلا أنني أرى أن الوظيفة التي ينجم عنها خنق لحرية الرأي هي وظيفة وحياة لن يذكرها التاريخ بخير، لكن تبقى هذه وجهة نظر شخصية.
هذه حكايتي مع حرية الرأي في الصحافة السعودي ممثلة برؤساء التحرير والتي تظل في إطار التجربة الشخصية، لكن تكرارها وتنوعها وشمولها لمعظم الصحف السعودية وفي أوقات مختلفة تجعلني قادراً على القول:
1. أنها تجربة تبين إحصائياً أن سقف الحرية الصحفية المتاحة في الصحافة السعودية لكاتب المقال الناقد منخفض جداً رغم تأرجحه من وقت لآخر لكنه يبقى دائماً محاصراً تحت الخط الأحمر.
2. إن رؤساء التحرير هم أداة السلطة في منع المقال الناقد المتعلق بالقضايا الجوهرية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية مساحاتهم المسموح لهم بالحركة فيها والاقتراب من الخطوط الحمر التي رسمها المسؤول الحكومي محدودة جداً. ومن أراد القفز فوقها فعليه ان يتوقع السقوط بعدها.
الخلاصة:
ليت المسؤول يدرك أنه كلما اتسعت حرية الرأي في الوطن كلما ضاقت مساحة البعد بين المواطن والمسؤول، وزاد الأمل في مستقبل أكثر نقاءً ورخاءً.
د.عبد العزيز محمد الدخيل
16 ديسمبر 2016
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق