الصحافة السعودية وحرية الرأي
الصحافة السعودية وحرية الرأي[1]
21/01/2013 م
لو جاز لي أن
أصف الصحف السعودية لقلت إنها مؤسسات حكومية مسموح لها بالتجارة الإعلانية لتمويل
نفقاتها الجارية والرأسمالية إلى جانب الإعانة الحكومية. يقف على باب كل مؤسسة حاجب يسمى رئيس
التحرير، يحجب ما يرى أنه غير ملائم للنشر ويسمح بالباقي، معياره في ذلك وأدوات
قياسه للممنوع والمسموح هو ما يتلقاه من تعليمات مباشرة من الوزير الذي يرأس
الوزارة التي ترتبط بها إعلامياً كل الصحف المحلية وهي وزارة الثقافة والإعلام،
وتدخل على الخط أحياناً وزارة الداخلية. فالحاجب -أقصد رئيس التحرير- هو من جهة ملزم بالقيد الإعلامي والرسمي
القوي المستتر، ومن جانب آخر يحاول تمرير بعض المقالات التي تحاكي الواقع والحقيقة
وتنشد الإصلاح تجاوباً مع الرأي العام الذي لم تعد معدته قادرة على هضم الطعام
المملوء بالدهون المخالفة للمعايير الصحية، ولم يعد عقله وضميره قابلين لغير
المعقول، ولم يعد قادراً على إغماض عينه لكيلا ترى النور. أنا لا أستطيع الحكم بالشفقة عليه أو
العجب منه، فلم أسمع برئيس تحرير رفض المهمة إلا بشروط، وأظن أن المُعيَّن منهم في
هذه الوظيفة شغوفٌ بها متمنٍّ لها كما هي حال وزرائنا.
الكاتب أياً كانت المساحة التي يطل منها على القراء، فإنه يعمل
ضمن نطاق من حرية الرأي المتاحة. حرية الرأي هذه
لم تعد ترفاً وإضافة حسنة للشعوب التي تتمتع بها، بل أصبحت معياراً مهماً وأساساً
في تكوين وقياس حضارتها. المعيار
الحضاري للشعوب يختلف الفلاسفة في تحديده وتعريفه، كما أنه بحكم طبيعته غير
المادية لا يخضع للتقنين والتحديد الكمي. لكن، وإن اختلف
المنظرون في بناء مقياس كمي للمعيار الحضاري، فإنهم يتفقون على المكونات الأساسية
لهذا المعيار. حرية الرأي
المتاحة للجميع هي أحد المكونات الأساسية للمعيار الحضاري في أي دولة. القراءة التاريخية تقول إن الدول
المتقدمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً هي دولٌ حرية الرأي فيها تنعم بمساحات
وفضاءات كبيرة جداً، المساس بها كماً أو نوعاً هو من قبيل المحرمات عرفاً وقانوناً.
لا أعتقد أن القول بأننا في المملكة العربية السعودية لا نملك
ذاك الفضاء من حرية الرأى يحتاج إلى حجج وإقناع، حتى أولئك الذين يمتهنون تقليص
الحقائق يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم يكذبون على أنفسهم أولاً وعلى عباد الله
ثانياً. أنا شخصياً
أعتقد أن دائرة حرية الرأي عندنا بقطرها ومحيطها هي دائرة ضيقة. لاشك أن الضيق والاتساع في مفهوم حرية
الرأي فيه شيء من النسبية، فما هو ضيق بالنسبة لي قد يكون واسعاً فضفاضاً عند غيري. إذا تجاوزنا التأسيس المبدئي بأن حرية
الصحافة هي مكون أساسي لحرية الرأي في المجتمعات الحديثة، وأن حرية الرأي هي جزء
أصيل من حرية الإنسان، وأن حرية الإنسان هي من الحقوق الأساسية للإنسان أياً كان
وفي أي مكان، يبقى لدينا موضوع النسبية التى يجب أن تكون لها مرجعية موضوعية يمكن
القياس عليها حتى لا يكون هوى الإنسان هو الأساسي. المرجعية في نظري هي حجم وأهمية القضايا
المصيرية التي تواجه الأمة، والتي لابد من إيجاد حلول ناجعة وقابلة للتنفيذ لها
لكي تسير الأمة بخطوات أقوى وأسرع على طريق التقدم الحضاري الإنساني. وهذا يتطلب حجماً ومساحة من حرية الرأي
تسمح بطرح صريح مباشر غير مدغم أو مبهم لقضايا الأمة المهمة والمصيرية وذات
الحساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون خوف أو وجل من غضبة حاكم أو تكفير
من رجل دين ما دام الطرح ملتزماً بالثوابت الدينية والأخلاقية للأمة.
أعتقد أن قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي
يواجهها المجتمع السعودي اليوم هي قضايا من النوع الجوهري والحجم الرئيس الذي
يتطلب صدقاً وصراحة في الطرح والشرح والتحليل، وهذا من الناحية العملية لن يتأتى
إلا باستنهاض كل القدرات والإمكانات الوطنية، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بشكل فاعل
ومفيد إلا بفتح المجال واسعاً لحرية الرأي. حرية الرأي هي
النهر العظيم الذي تصبّ فيه كل الينابيع الوطنية، ومن هذا النهر تستقي الدولة
والأمة حلولاً لقضاياها وبرامج وخططاً لمستقبلها. النهر هذا هو فكر الأمة الجمعي بقيادة
فلاسفته ورجال دينه وعلمائه ومثقفيه من الرجال والنساء. نهرٌ لا يمنع أي وادٍ كبر أو صغر أن يصبّ
فيه. هذا النهر لا
يوقف أي ماء يرِد إليه مهما كان لونه أو طعمه إلا ما ارتأت الأمة، وليس الحاكم،
أنه سامٌّ يهدد صحة الأمة وبناءها الأخلاقي. قد تقذف في
النهر بعض القاذورات غير السامة، فليكن ذلك، لأن النهر الجاري يطهر الدنس عكس
المياه الآسنة العديمة الحركة هديراً وهدوءاً مداً وجزراً. المهم ألا تُقطع وتُحجز مجاري السيول
والوديان التي تصبّ في النهر كما قُطعت في جدة، فيختل التوازن الطبيعي للأرض ومن
عليها ويأتي الطوفان وتحلّ الكارثة.
حرية الرأي ألاّ لا تخيفنا لأنها تكشف الغطاء عن المستور
وتُدخِل الأوكسجين إلى الأقبية فتنقي هواءها، وتوصل الكهرباء إلى الكهوف المظلمة
فتنير مصابيحها. حرية الرأي
تمنع تراكم الضغوط وتحمي البلاد من الانفجارات. قد تُغضِب حرية الرأي المسؤول يوماً
ولكنها ستفرح البلاد وتفرحه أياماً. لم تكن
المساحات الواسعة من الحرية يوماً من الأيام سبباً في ضعف الدول واختلال أمنها، بل
إن العكس هو الصحيح. خنق حرية الرأي
وقيدها سبب من الأسباب الرئيسة لضعف الدولة وعدم استقرارها. كل ثورات الربيع العربي على ذلك شاهدة،
فلو كانت هناك حرية رأي لما تراكمت القضايا والأمور وأصبحت حطباً جاهزاً للاشتعال
عند أول عود ثقاب. دول الربيع
العربي قُتلت فيها حرية الرأي فقتلت هي بالتالي من قتلها والبادئ أظلم. لحرية الرأي سقوف وأعمدة، وكلما قويت
الأعمدة وارتفع السقف زاد فضاء الحرية الصحفية وأسهمت الصحافة بشكل أفضل في إماطة
الأذى عن الطريق وفي إنارته لكي يرى المسؤول وصاحب القرار طريقه ويبعد عن الحفر
والجفر. حرية الرأي
تساعد على إظهار الحقيقة المتمثلة في رأي الأمة من خلال ما تعكسه الأقلام من تناطح
وتلاقح الآراء والأفكار والنظريات في فضاء واسع من حرية الصحافة.
في أهل الصحافة
هناك من يبحث عن الطريق المعبد الخالي من الحفر والمطبات فيسلكه لإيصال رسالته،
وهناك من يختار طريقاً مطروقاً وإن لم يكن معبداً لكلمته، وهناك من لا تستهويه
الطرق المعبدة ويصرّ على شق الطرق المباشرة وإن كانت تمر عبر الجبال والوديان. في صحافتنا من يرضى بالسقف المتاح ويطأطئ
الرأس أحياناً لكي يعبر، وهناك من يكتب من أجل أن يرفع السقف إلى أعلى ولو
سنتيمترات. كلهم له دور
يؤديه، فالوطن في حاجة لكل الأصوات والأقلام المؤمنة بأن لديها رسالة تخدم مصلحة
الأمة ورُقيّها، لكن الوطن أحوج ما يكون إلى الذين يرفعون السقوف المنخفضة ويفتحون
الطرق الصعبة من أجل فضاء أوسع وأعلى لحرية الرأي.
الكاتب أياً كانت المساحة التي يطل منها على القراء، فإنه يعمل ضمن نطاق من حرية الرأي المتاحة. حرية الرأي هذه لم تعد ترفاً وإضافة حسنة للشعوب التي تتمتع بها، بل أصبحت معياراً مهماً وأساساً في تكوين وقياس حضارتها. المعيار الحضاري للشعوب يختلف الفلاسفة في تحديده وتعريفه، كما أنه بحكم طبيعته غير المادية لا يخضع للتقنين والتحديد الكمي. لكن، وإن اختلف المنظرون في بناء مقياس كمي للمعيار الحضاري، فإنهم يتفقون على المكونات الأساسية لهذا المعيار. حرية الرأي المتاحة للجميع هي أحد المكونات الأساسية للمعيار الحضاري في أي دولة. القراءة التاريخية تقول إن الدول المتقدمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً هي دولٌ حرية الرأي فيها تنعم بمساحات وفضاءات كبيرة جداً، المساس بها كماً أو نوعاً هو من قبيل المحرمات عرفاً وقانوناً.
لا أعتقد أن القول بأننا في المملكة العربية السعودية لا نملك ذاك الفضاء من حرية الرأى يحتاج إلى حجج وإقناع، حتى أولئك الذين يمتهنون تقليص الحقائق يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم يكذبون على أنفسهم أولاً وعلى عباد الله ثانياً. أنا شخصياً أعتقد أن دائرة حرية الرأي عندنا بقطرها ومحيطها هي دائرة ضيقة. لاشك أن الضيق والاتساع في مفهوم حرية الرأي فيه شيء من النسبية، فما هو ضيق بالنسبة لي قد يكون واسعاً فضفاضاً عند غيري. إذا تجاوزنا التأسيس المبدئي بأن حرية الصحافة هي مكون أساسي لحرية الرأي في المجتمعات الحديثة، وأن حرية الرأي هي جزء أصيل من حرية الإنسان، وأن حرية الإنسان هي من الحقوق الأساسية للإنسان أياً كان وفي أي مكان، يبقى لدينا موضوع النسبية التى يجب أن تكون لها مرجعية موضوعية يمكن القياس عليها حتى لا يكون هوى الإنسان هو الأساسي. المرجعية في نظري هي حجم وأهمية القضايا المصيرية التي تواجه الأمة، والتي لابد من إيجاد حلول ناجعة وقابلة للتنفيذ لها لكي تسير الأمة بخطوات أقوى وأسرع على طريق التقدم الحضاري الإنساني. وهذا يتطلب حجماً ومساحة من حرية الرأي تسمح بطرح صريح مباشر غير مدغم أو مبهم لقضايا الأمة المهمة والمصيرية وذات الحساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون خوف أو وجل من غضبة حاكم أو تكفير من رجل دين ما دام الطرح ملتزماً بالثوابت الدينية والأخلاقية للأمة.
أعتقد أن قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع السعودي اليوم هي قضايا من النوع الجوهري والحجم الرئيس الذي يتطلب صدقاً وصراحة في الطرح والشرح والتحليل، وهذا من الناحية العملية لن يتأتى إلا باستنهاض كل القدرات والإمكانات الوطنية، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بشكل فاعل ومفيد إلا بفتح المجال واسعاً لحرية الرأي. حرية الرأي هي النهر العظيم الذي تصبّ فيه كل الينابيع الوطنية، ومن هذا النهر تستقي الدولة والأمة حلولاً لقضاياها وبرامج وخططاً لمستقبلها. النهر هذا هو فكر الأمة الجمعي بقيادة فلاسفته ورجال دينه وعلمائه ومثقفيه من الرجال والنساء. نهرٌ لا يمنع أي وادٍ كبر أو صغر أن يصبّ فيه. هذا النهر لا يوقف أي ماء يرِد إليه مهما كان لونه أو طعمه إلا ما ارتأت الأمة، وليس الحاكم، أنه سامٌّ يهدد صحة الأمة وبناءها الأخلاقي. قد تقذف في النهر بعض القاذورات غير السامة، فليكن ذلك، لأن النهر الجاري يطهر الدنس عكس المياه الآسنة العديمة الحركة هديراً وهدوءاً مداً وجزراً. المهم ألا تُقطع وتُحجز مجاري السيول والوديان التي تصبّ في النهر كما قُطعت في جدة، فيختل التوازن الطبيعي للأرض ومن عليها ويأتي الطوفان وتحلّ الكارثة.
حرية الرأي ألاّ لا تخيفنا لأنها تكشف الغطاء عن المستور وتُدخِل الأوكسجين إلى الأقبية فتنقي هواءها، وتوصل الكهرباء إلى الكهوف المظلمة فتنير مصابيحها. حرية الرأي تمنع تراكم الضغوط وتحمي البلاد من الانفجارات. قد تُغضِب حرية الرأي المسؤول يوماً ولكنها ستفرح البلاد وتفرحه أياماً. لم تكن المساحات الواسعة من الحرية يوماً من الأيام سبباً في ضعف الدول واختلال أمنها، بل إن العكس هو الصحيح. خنق حرية الرأي وقيدها سبب من الأسباب الرئيسة لضعف الدولة وعدم استقرارها. كل ثورات الربيع العربي على ذلك شاهدة، فلو كانت هناك حرية رأي لما تراكمت القضايا والأمور وأصبحت حطباً جاهزاً للاشتعال عند أول عود ثقاب. دول الربيع العربي قُتلت فيها حرية الرأي فقتلت هي بالتالي من قتلها والبادئ أظلم. لحرية الرأي سقوف وأعمدة، وكلما قويت الأعمدة وارتفع السقف زاد فضاء الحرية الصحفية وأسهمت الصحافة بشكل أفضل في إماطة الأذى عن الطريق وفي إنارته لكي يرى المسؤول وصاحب القرار طريقه ويبعد عن الحفر والجفر. حرية الرأي تساعد على إظهار الحقيقة المتمثلة في رأي الأمة من خلال ما تعكسه الأقلام من تناطح وتلاقح الآراء والأفكار والنظريات في فضاء واسع من حرية الصحافة.
المستقبل المجهول يصنعه حاضرٌ غير سويّ[2]
4/02/2013 م
المستقبلُ
يُولَد من بطن الحاضر؛ فالحاضر يصنعُ المستقبل. الحاضر غير السوي سياسياً واقتصادياً
واجتماعياً لابد أن يلد مستقبلاً مليئاً بالأمراض، متعدِّدَ المخاطر، مجهولَ
الهوية. اغضبوا أولا
تغضبوا؛ فهذه هي قراءتي لحاضرِنا.
قولوا ما شئتُم، قولوا متشائمٌ؛ نعم! فأنا متشائم، أنا لا أرى شمساً ولا قمراً
في سماء مستقبلِنا، وتسألونني مِن أين جاءتك هذه النبوءة عن مستقبلنا؟ فأقول لكم: حاضرنا هو الذي أنبأني بها، اسألوه إن
كنتم لا تصدِّقُون. آسفٌ آسف،
معذرة إخوتي، لقد نسيت! فنحن لا نعرف
ما المستقبل؟!. لقد سقط هذا
الزمن من مفرداتنا وأُلغِيَ من خارطة أفكارِنا، نحن سُكارى من خمر الحاضر،
وبطونُنا منتفخةٌ من موائدِه. موائدُ إن لم
تُستهلَكْ حالاً يُصبْها العفن، لا تعرف المستقبل، ولم تعد لكي تصل إليه. إنَّها موادُّ استهلاكيَّةٌ صُنعت خصيصاً
للحاضر، عمرُها الزمني لا يتعدَّى حدوده وينقضي بانقضائه. نحن لا نسأل عن المستقبل؛ لأنَّنَا
غارقون في وحل الحاضر، عقولنا بَطُل مفعولُها، وفقدت قدرتَها على التفكير خارجَ
حدود الحاضر وتضاريسِه.
نحن نعيش نعمة الحاضر الذي أوقف الزَّمنَ عند أقدامِه، وأوهمنا
بنعمتِه وكرمِه، وأفهمنا أنه هو المستقبل، وهو الأبد. يسقينا الحاضر في الليل وفي النهار من
خمرِ بتروله فنسكرُ ونمرحُ ونرقصُ ونغنِّي الأناشيدَ الوطنيَّةَ، ونرفع الصوت
عالياً: بلادنا أنت ما
مثلك بلد. وكلما استيقظ
أحدُنا وهمَّ بالسؤال هبَّ الحاضر وأترعنا بمزيدٍ من بتروله الأسود، الذي سرعانَ
ما يتحوَّلُ إلى دولارات ودنانير بفعل خلطة سعودية مسجَّل اختراعُها لنا؛ فهي من
ضمن خصوصيتنا، فتنتفخ جيوبُنا، وتُقفَل عقولُنا التي لا نشعر أننا بحاجة إليها،
فنحن سعداء بحالنا ومالنا، ونردد القول: الله لا يغيّر
علينا.
أنا واحد منكم،
مشارك في كل خطاياكم وذنوبكم، إلا أنَّ خمرَكم لم يُسكرْني ويرحْني مثل ما أراحكم
لأنعمَ مثلَكم بحياة التيه والنسيان واختصار الزمان في الحاضر من الأيام. ما أسعدَكم بعقولكم! وما أشقاني بعقلٍ رافضٍ مشاغبٍ كافرٍ
بالنعمة يرفض أن يريحني لأريحكم من تشاؤمي بمستقبلٍ ترونه بعيداً وأراه قريباً! سألت عقلي المتمرِّدَ عليَّ وعلى النوم
والراحة: ما الذي دعاك
وأوصلك إلى هذا الخوف الشديد من المستقبل؟ ألا ترى ما نحن فيه من رَغَدِ العَيش
وطيب المأكَل والمسكَن؟ صحيح أنَّ سيول البترول المتطايرة من أفواه آبار البترول
تسيلُ في بعض الوديان المرتفعة ولا تنحدر إلى الوديان المنخفضة، وهذا عكس قانون
الطبيعة، لكنَّنَا راضون مقتنعون، حتى وإن كان حالُنا مخالفاً لقوانين الطبيعة؛
فالقناعةُ كنزٌ لا يفنى. صحيحٌ أنَّه
رغدٌ لا ينعم به ويستفيد منه كل المواطنين بشيء من العدل والمساواة، لكن حتى أولئك
المحرومين راضون بحالِهم.
صحيحٌ أنَّنَا لم نسألْهم، لكنْ هناك عديدٌ من الصحف والبرامج
والمقالات والبيانات الرسمية وحتى الدولية التي تجيب عنهم، وتقول على لسانهم
وبلغتهم «إنَّنا بخير
وعافية.. راضون راضون». نحن أيها العقل الرافض الجاهل، أو
المتجاهل لخصوصيَّتنا، ليس للسؤال مكانٌ في لغتنا، ولا للاعتراضِ وجودٌ في حياتنا. نحن لم نتعوَّدْ على السؤال، أو قل إنَّه
ليسَ من خُصوصيَّتِنا السعوديَّة؛ فالإجابات – والحمد لله – جاهزةٌ بين أيدينا، وعلى ألسنتنا، لكي لا
نشقى بعناء البحث عن الإجابة، وهذه من بَرَكَات النِّفط، الإجاباتُ تسرَّبُ إلينا
وتُوضَعُ على ألسنتِنا، وتحتلُّ كلَّ مكان في عقولِنا قبلَ أن تصل إلينا رياح
الأسئلة؛ لذا فإنه عندما يصل السؤال إلى العقل لا يجد له مكاناً البتة؛ فالأجوبة
بكل ألوانها وأشكالها «شعراً ونثراً
فقهاً وحكمةً» احتلت المكانَ
كلَّ المكان، ولم يعد بالإمكان التفكير في المستقبل والقادم من الزمان.
أليست هذه هي
راحة البال أيها الشقي؟! نحن – أيها العقل الذي لا يشكر- تعلَّمنا أن يكون الحمدُ والشكرُ هو
جوابنا الدائم، حتى وإن كنَّا نشعر بعدم الرضا، نحن يا سيدي تركنا العمل والجد
والاجتهاد بعد أن فُتحت لنا خزائنُ الأرضِ بترولاً. دعْ عنك هذا المستقبل الذي أزعجتَنا به،
ودعنا نعش حاضرنا ونسعد به، يكفينا التفاؤل والآمال والأحلام، فمَا نيلُ المطالبِ
إلا بالتَّمنِّي، والدنيا لا تُدرَك غِلاباً، أيها الجاهل الشقي بعقله.
أعود مرة أخرى إلى سؤالي: ما الذي دعاك وأوصلك أيها العقل المشاغب
إلى حالة الإحباط هذه؟ انتفض العقل وقال: اسمع أيها الغائب
عن رؤية مستقبلك، أيها التائه في بلايين دولاراتك النفطية دعْني أمر مرور الكرام
على واقع حالك؛ لأريَك إن كنتَ ترى، وأُسمعَك إن كنتَ تسمع، وأبيِّنَ لك إن كنتَ
تعقل أنَّ حاضرك قائمٌ بنيانُه على ثروات زائلة متلاشية، وأنَّ مستقبلَك سرابٌ
تحسبه شيئاً فإن جئته فلن تجد فيه شيئاً.
دعْنِي إن سمحتَ لي ورغبتَ أن تُصغيَ لحديثي أن أمرَّ مرورَ
الكرام على ثلاث قواعد أساسيَّة في حياتك اليومية وواقعك المعاش وهي: واقعُك السياسي وواقعُك الاجتماعي
وواقعُك الاقتصادي. قلت: هات، فقال: حاول أن تفهمَ وتستوعبَ وتُدركَ ما أقول،
ولو أنني أعلمُ أنك لا تدرك جيداً العلاقة بين الحاضر والمستقبل؛ حيث المستقبل
يُولَد من رحم الحاضر، لكنني لم أفقد الأمل فيك علَّ وعسى في ذلك العقل خليَّةً
استعصت على النوم، وتعلقت بإرادة الحياة. قلت له: مشكورٌ على هذا الاستهزاء، لكنني سأصبر
وأستمع؛ علَّني أستفيدُ منك شيئاً، قال:
في الجانب السياسي:
إرادة الفعل
والنقض والتغيير والبناء والتطوير والتحديث هي إرادة الحكومة، أمَّا كلُّ إرادتكم
الجمعية ومعها عقولكم الذكية ومهاراتكم المهنية وأفكاركم الجهنمية والعادية فهي
خارج دائرة القرار الفاعل، وأرجو أن تركز معي، فأنا أقول «القرار الهام والفاعل والاستراتيجي»، وليس «القرار العادي الإداري» وما في حكمه. أنا أقول إنه لا يوجد في بنائكم السياسي
الحاضر قاعدة أساسية صالحة وقادرة على التطور والنضج تكون رافداً ومؤسساً لمستقبل
أفضل. قلت: لم أفهم، قال: سأوضِّحُ رغمَ أنني أخشى أنك لن تفهم!. قلت: كفى. قال: إنَّني أقول إنه ليس لديكم – كشعب – إطارٌ سياسيٌّ يمثلُكم ويعبِّرُ عن
آرائكم ورغباتكم وخوفكم وآمالكم ومستقبلكم، إطار يكون عوناً لمن تشرَّف بحكمكم
ونال ثقتكم وأصبح وليَّ الأمر عليكم. قلت: أيها العقل، أنت لست فقط جاهلاً بحالِنا
وما نحن فيه من سعادة نُحسَدُ عليها؛ ولكنك لا تقرأ ولا تتابع الأخبار والتطورات. ألم تعلم أن لدينا مجلساً للشورى ضُمَّ
إليه مؤخراً ثلاثون امرأة، فأصبحنا أكثر تحرراً وتقدماً من كثير من الدول بما فيها
بعض الدول المتقدمة؟ قال: على رِسْلِك، «ألم أقلْ لكَ إنَّكَ لن تستطيعَ مَعِيَ
صَبْراً». أرجوك، لا
تحدثْني عن مجلس الشورى، قديمه أو حديثه؛ فهذا لم أعنِ. مجلس الشورى، يا أخي، أياً كان مَن فيه
لم يوجد ليمثل إرادة الشعب، وإنما وُجد ليمثل إرادة الدولة، أفهمت أيها الذكي؟ أنا
أقول إنه ليس لديكم مجلس ممثِّلٌ للأمة بجميع شرائحها وطوائفها ومناطقها ومذاهبها
ورجالها ونسائها، منتخَب من الشعب انتخاباً حراً نزيهاً. فالمجلس المنتخب هو القاعدة الأساسية
لبناء نظام سياسي يعبِّرُ عن آمال الأمة وآلامها، نظامٌ يشارك فيه الشعب بفعالية
وجدية مع القيادة الحاكمة في بناء حاضر على أسس صالحة وقوية تؤسِّسُ لمستقبل أفضل
وأقوى. الموضوع في هذا
الجانب يطول لكنني أكتفي بهذا القدر منه.
في الجانب الاجتماعي:
أما في الجانب
الاجتماعي، فقد غيرت الثروة البترولية كثيراً من خصالكم الاجتماعية الجيِّدة
الأصيلة واستبدلتموها بخصال «بترولية» طغى فيها الاستهلاكُ على الإنتاج،
والكسلُ على العمل، والفسادُ على الأمانة، والمخدراتُ على الوعي الصحي والفكري،
جعلتم الركضَ وراء النساء إمَّا لاستعبادِهنَّ أو إخفائِهنَّ عنواناً لإصلاحكم
الاجتماعي، وأصبح جمعُ المال بغير وجه حقٍّ ظلماً كان أو فساداً شائعاً في دياركم. لم يعد للمال العام حرمته، شبّكتم
الصحاري والقفار بعد المدن والشواطئ. تفرقتم شِيَعاً
وقبائل وطوائف ومذاهب. نظامُكم
التعليمي يتعثر، يتقدم العالم وهو يتأخر، فكان مِن ويلاته البطالة والجهل المستتر،
المشكلة أنَّ وزراء العمل عندكم ليست لديهم الشجاعة ليعترفوا أنَّ كثرة المكوِّن
الأدبي والفقهي على حساب قلة وضعف المكوِّن العلمي والتكنولوجي في مناهجكم
التعليمية هي من أهم أسباب البطالة الصريحة والمقنعة عندكم.
في الجانب الاقتصادي:
وهنا حدِّثْ
ولا حرج. دعني أؤكدْ في
البداية أنَّ الاقتصاد يقعُ محلَّ القلب في جسم الإنسان، إن خرب خرب الجسدُ كلُّه،
وتوقف الدم النقي عن الانسياب في شرايينه، والوصول إلى كل أطرافه، فتموت أو يصيبها
الشلل. قلت: هذا صحيح، ولكن المهم في الأمر الآن هو: هل اقتصادنا – أعني قلبَنا على حد تعبيرك – سليمٌ قويٌّ يهيئ لنا وسائل العيش الكريم
حاضراً ومستقبل، خصوصاً ونحن شعب يزدادُ كلَّ دقيقةٍ؛ فمعدلات النمو السكاني لدينا
من أكبر المعدلات في العالم؟ قال: كم أنا سعيد
بهذا السؤال يبدو أنك بدأت تفهم خطورة واقعك. لا، لا أريد أن أكون متفائلاً أكثر من
اللازم، أقصد أنك بدأت تطرح السؤال الصحيح، وهذا في حد ذاته مهمٌّ جداً، وأجدادكم
يقولون: مَن سأل ما ضاع.
يا سيدي قلبكم
ينبُضُ في كل يوم حوالي عشرة ملايين برميل من البترول، تغمر أجزاءً من أرضكم حتى
الغرق، وتمطر فوق أجزاء، وتمرُّ مرَّ السحاب فوق أخرى. فلنترك موضوع التوزيع العادل للثروة
جانباً فقد يكون هذا صعباً عليك فهمُه، فالمهم الآن هو أن هذه الثروة البترولية
والأموال الناجمة عن استنزافها هي التي تمول أكثر من 90٪ مِن نفقات ميزانيتكم الحكومية التي
منها التعليم والصحة والطرق والدفاع والأمن ورواتب الموظفين والمشاريع والمياه
والكهرباء والصناعة والزراعة والمواصلات والموانئ وأمورٌ أخرى مستترة.
هذه الثروة يا أخي الغافل ناضبةٌ منتهية، إن آجلاً أو عاجلاً. كم أنا عاجز عن فهم صمتكم وسكونكم
وسكوتكم، لم تقلقكم وتقض مضاجعكم هذه الحقيقة الجيولوجية الاقتصادية، وظللتم في
غيِّكم واستهلاكِكُم المتسارع لثروتكم الوطنية سائرين، وعن بناء رأسمال وطني بديل
نائمين. فهل تعلمون أو
تفكرون أو تتخيلون كيف يكون حالكم وحال أجيالكم عندما يقف قلبكم البترولي عن ضخ دم
يكفيكم ويسد حاجتكم؟ سيكون الأمر صعباً صعباً. قلت لهذا العقل الثرثار (الملقوف): مالنا ومال الأجيال القادمة؟! اللي رزقنا يرزقهم.
نظر العقل إليَّ باشمئزاز وقال: (أولاً) هذه الثروة ليست لكم وحدَكم لكي تبددوها
وتستهلكوها. هي لكم
ولأجيالكم القادمة، كلٌّ يأخذ بقدر حاجته وقدرته على استثمار عوائدها لإنتاج أصول
رأسمالية منتجة. (ثانياً) الأجيال هي طفلك الذي وُلد بالأمس وطفل
ابنك وابنتك القادم. أفق من هذه
الأنانية وهدر أموال الشعب السعودي من جيلكم والأجيال القادمة. أنتم الآن يا سيدي أمام فرصة ذهبية أضعتم
جزءاً منها، وإن لم تصلحوا حالَكم فيما بقي من الزمن؛ فإنَّكم لا محالة إلى الفقر
ذاهبون، وإلى الهاوية بأقدامكم سائرون. أبدلوا
أقدامَكم بعقولكم تسيروا في الاتجاه الصحيح ويصلح حالكم.
قولوا ما شئتُم، قولوا متشائمٌ؛ نعم! فأنا متشائم، أنا لا أرى شمساً ولا قمراً في سماء مستقبلِنا، وتسألونني مِن أين جاءتك هذه النبوءة عن مستقبلنا؟ فأقول لكم: حاضرنا هو الذي أنبأني بها، اسألوه إن كنتم لا تصدِّقُون. آسفٌ آسف، معذرة إخوتي، لقد نسيت! فنحن لا نعرف ما المستقبل؟!. لقد سقط هذا الزمن من مفرداتنا وأُلغِيَ من خارطة أفكارِنا، نحن سُكارى من خمر الحاضر، وبطونُنا منتفخةٌ من موائدِه. موائدُ إن لم تُستهلَكْ حالاً يُصبْها العفن، لا تعرف المستقبل، ولم تعد لكي تصل إليه. إنَّها موادُّ استهلاكيَّةٌ صُنعت خصيصاً للحاضر، عمرُها الزمني لا يتعدَّى حدوده وينقضي بانقضائه. نحن لا نسأل عن المستقبل؛ لأنَّنَا غارقون في وحل الحاضر، عقولنا بَطُل مفعولُها، وفقدت قدرتَها على التفكير خارجَ حدود الحاضر وتضاريسِه.
نحن نعيش نعمة الحاضر الذي أوقف الزَّمنَ عند أقدامِه، وأوهمنا بنعمتِه وكرمِه، وأفهمنا أنه هو المستقبل، وهو الأبد. يسقينا الحاضر في الليل وفي النهار من خمرِ بتروله فنسكرُ ونمرحُ ونرقصُ ونغنِّي الأناشيدَ الوطنيَّةَ، ونرفع الصوت عالياً: بلادنا أنت ما مثلك بلد. وكلما استيقظ أحدُنا وهمَّ بالسؤال هبَّ الحاضر وأترعنا بمزيدٍ من بتروله الأسود، الذي سرعانَ ما يتحوَّلُ إلى دولارات ودنانير بفعل خلطة سعودية مسجَّل اختراعُها لنا؛ فهي من ضمن خصوصيتنا، فتنتفخ جيوبُنا، وتُقفَل عقولُنا التي لا نشعر أننا بحاجة إليها، فنحن سعداء بحالنا ومالنا، ونردد القول: الله لا يغيّر علينا.
صحيحٌ أنَّنَا لم نسألْهم، لكنْ هناك عديدٌ من الصحف والبرامج والمقالات والبيانات الرسمية وحتى الدولية التي تجيب عنهم، وتقول على لسانهم وبلغتهم «إنَّنا بخير وعافية.. راضون راضون». نحن أيها العقل الرافض الجاهل، أو المتجاهل لخصوصيَّتنا، ليس للسؤال مكانٌ في لغتنا، ولا للاعتراضِ وجودٌ في حياتنا. نحن لم نتعوَّدْ على السؤال، أو قل إنَّه ليسَ من خُصوصيَّتِنا السعوديَّة؛ فالإجابات – والحمد لله – جاهزةٌ بين أيدينا، وعلى ألسنتنا، لكي لا نشقى بعناء البحث عن الإجابة، وهذه من بَرَكَات النِّفط، الإجاباتُ تسرَّبُ إلينا وتُوضَعُ على ألسنتِنا، وتحتلُّ كلَّ مكان في عقولِنا قبلَ أن تصل إلينا رياح الأسئلة؛ لذا فإنه عندما يصل السؤال إلى العقل لا يجد له مكاناً البتة؛ فالأجوبة بكل ألوانها وأشكالها «شعراً ونثراً فقهاً وحكمةً» احتلت المكانَ كلَّ المكان، ولم يعد بالإمكان التفكير في المستقبل والقادم من الزمان.
أعود مرة أخرى إلى سؤالي: ما الذي دعاك وأوصلك أيها العقل المشاغب إلى حالة الإحباط هذه؟ انتفض العقل وقال: اسمع أيها الغائب عن رؤية مستقبلك، أيها التائه في بلايين دولاراتك النفطية دعْني أمر مرور الكرام على واقع حالك؛ لأريَك إن كنتَ ترى، وأُسمعَك إن كنتَ تسمع، وأبيِّنَ لك إن كنتَ تعقل أنَّ حاضرك قائمٌ بنيانُه على ثروات زائلة متلاشية، وأنَّ مستقبلَك سرابٌ تحسبه شيئاً فإن جئته فلن تجد فيه شيئاً.
دعْنِي إن سمحتَ لي ورغبتَ أن تُصغيَ لحديثي أن أمرَّ مرورَ الكرام على ثلاث قواعد أساسيَّة في حياتك اليومية وواقعك المعاش وهي: واقعُك السياسي وواقعُك الاجتماعي وواقعُك الاقتصادي. قلت: هات، فقال: حاول أن تفهمَ وتستوعبَ وتُدركَ ما أقول، ولو أنني أعلمُ أنك لا تدرك جيداً العلاقة بين الحاضر والمستقبل؛ حيث المستقبل يُولَد من رحم الحاضر، لكنني لم أفقد الأمل فيك علَّ وعسى في ذلك العقل خليَّةً استعصت على النوم، وتعلقت بإرادة الحياة. قلت له: مشكورٌ على هذا الاستهزاء، لكنني سأصبر وأستمع؛ علَّني أستفيدُ منك شيئاً، قال:
هذه الثروة يا أخي الغافل ناضبةٌ منتهية، إن آجلاً أو عاجلاً. كم أنا عاجز عن فهم صمتكم وسكونكم وسكوتكم، لم تقلقكم وتقض مضاجعكم هذه الحقيقة الجيولوجية الاقتصادية، وظللتم في غيِّكم واستهلاكِكُم المتسارع لثروتكم الوطنية سائرين، وعن بناء رأسمال وطني بديل نائمين. فهل تعلمون أو تفكرون أو تتخيلون كيف يكون حالكم وحال أجيالكم عندما يقف قلبكم البترولي عن ضخ دم يكفيكم ويسد حاجتكم؟ سيكون الأمر صعباً صعباً. قلت لهذا العقل الثرثار (الملقوف): مالنا ومال الأجيال القادمة؟! اللي رزقنا يرزقهم.
نظر العقل إليَّ باشمئزاز وقال: (أولاً) هذه الثروة ليست لكم وحدَكم لكي تبددوها وتستهلكوها. هي لكم ولأجيالكم القادمة، كلٌّ يأخذ بقدر حاجته وقدرته على استثمار عوائدها لإنتاج أصول رأسمالية منتجة. (ثانياً) الأجيال هي طفلك الذي وُلد بالأمس وطفل ابنك وابنتك القادم. أفق من هذه الأنانية وهدر أموال الشعب السعودي من جيلكم والأجيال القادمة. أنتم الآن يا سيدي أمام فرصة ذهبية أضعتم جزءاً منها، وإن لم تصلحوا حالَكم فيما بقي من الزمن؛ فإنَّكم لا محالة إلى الفقر ذاهبون، وإلى الهاوية بأقدامكم سائرون. أبدلوا أقدامَكم بعقولكم تسيروا في الاتجاه الصحيح ويصلح حالكم.
لكي لا نقع في الهاوية[3]
10/3/2014 م
يرى المسؤولون
في المملكة العربية السعودية أننا نعيش عصراً اقتصادياً ذهبياً، عصراً يحسدنا عليه
كثير من شعوب العالم. هذه الرؤية
العظيمة لواقعنا الاقتصادي عندما أخضعها لقانون وقواعد الاستدامة، تسقط كل
مقوماتها وتفقد كل بريقها وتتحول إلى غطاء من الصفيح المطلي بماء ذهب من عيار
منخفض جداً.
واقعنا يقول:
– إنتاجنا الفردي والحكومي
ضعيف جداً.
– إنفاقنا الاستهلاكي كبير
جداً.
– أعدادنا تتزايد بنسب فوق
العالية.
– مياهنا شحيحة وضئيلة جداً.
– نزيف مستمر للثروة
البترولية لإشباع حاجة الغرب الإنتاجية وإشباع حاجاتنا الاستهلاكية، بترول وغاز
مشكوك في مصيره الجيولوجي وأثمانه المالية المستقبلية.
– الفساد الإداري والمالي
جيد جداً!
– الشفافية والمساءلة ضعيفة
جداً.
– العمالة الأجنبية كثيرة
جداً تخدمنا وتنتج عنا.
– نظام تعليم يترنح، وعقول
أجيال تُهدر، ونظام سعودة يواصل هدر عقول الأجيال ويكمل من ضياع العمر ما
أضاعه نظام
التعليم.
هاجس المستقبل
مقلق وملّح، أراه مكتوباً على جبين كل طفل يولد وأنا أكتب عن المستقبل، أسمعها
استغاثة في صرخة كل طفل في مهده، الخوف من المستقبل يطبق على صدري ويشغل كل مساحة
في عقلي. يزعجني ضجيج
الإنفاق الحكومي المتطاير يميناً وشمالاً، وضجيج الاستهلاك الحكومي والفردي الممتد
على بساط البذخ. ضجيج البواخر
العملاقة على شواطئ بلادي الشرقية تملأ صهاريجها من تلك الأنابيب الممتدة إلى
أعماق حقولنا البترولية، تمتص بترولنا وتلقي به في الأسواق العالمية، وتعود إلينا
ببلايين الدولارات ننفقها من ميزانية نجهل كثيراً من تفاصيلها، كثير منها
للاستهلاك والنزر القليل منها للاستثمار المنتج.
عندما أنظر إلى حجم الواردات من سلع وخدمات (2013 م) أجدها قد بلغت 574.1 بليون ريال سعودي، ثم أنظر إلى الأعداد
البشرية التي تولد كل يوم مضيفة أعداداً جديدة إلى الأعداد الكبيرة من الأطفال
والشباب الذين تربو نسبتهم على 50% من إجمالي
السكان في المملكة، ومع تزايد أعداد الأطفال والشباب تتزايد الحاجة المستقبلية
للإنفاق على التعليم والسكن والصحة والخدمات الأخرى.
أنظر إلى
المستقبل وإمكانات الاستمرار في الإنفاق والاستهلاك فأجد أن مستقبل البترول مصدر
رزقنا الوحيد لا يبعث على الطمأنينة، فحول هذا المستقبل تدور شكوك جيولوجية
واقتصادية وسياسية تدعمها بحوث ودراسات لها رصانتها البحثية والأكاديمية.
في هذا الجو
الفكري المشحون بالمتناقضات أتساءل: مَن سيوفر
لأجيال المستقبل أضعاف هذه البلايين من العملات الصعبة لتأمين الواردات من السلع
والخدمات إن ظللنا سائرين على طريق كثرة الاستهلاك وقلة الإنتاج وعصفت الرياح
السياسية والاقتصادية بسوق البترول المستقبلية وعوائده المالية؟ حالنا ستكون صعبة
جداً، أفواه جائعة متنامية وأموال متدنية متناقصة.
لا أرى ولا
أسمع إلا ضجيج الحاضر بكل مكوناته البشرية والآلية، قهقهات، وإسراف، وبذخ وكسل
وقليل من الإنتاج مع كثير من الاستهلاك. ضاع المستقبل
أو فُقِد في لجة الحاضر وضجيجه، وكأننا في السعودية حكومة وشعباً ألغينا المستقبل
من قاموس الزمن؛ فليس له مكان في فكرنا أو تصرفنا. كل شيء بالنسبة لنا هو الحاضر، هو
الميزانية، هو الإنفاق، هو المنح والهبات الحكومية، هو القروض الميسرة والأراضي
الموزعة، ورغد العيش. والأسوأ من ذلك
أن هذا الحاضر بكل عيوبه الاقتصادية لا تشمل نعمه كل المواطنين في إطار العدالة
الاجتماعية، بل إن النعيم قسمة يتدرج حجمها بالتناقص من أعلى الهرم إلى أسفله حتى
لا يصل إلى قاعدة الهرم إلا الفتات. مشكلة السواد
الأعظم من الطبقة الفقيرة أن نصيبها من الحاضر الموسوم بالرفاهية المادية قليل
جداً ومن المستقبل المشكوك في رفاهيته كبير جداً.يقول البعض: ما بالك لا ترى هذه المشاريع العملاقة،
وهذه القطارات السريعة، وهذه المدن الاقتصادية العظيمة، وهذه المصانع والمتاجر
الرائعة، وهذه الشركات الكبيرة، وهذه البنوك الضخمة، وهذه الصناديق الحكومية
المتعددة للإقراض، وهذه مشاريع الإسكان المنتشرة في كل مكان، وها هي مشاريع
التوسعة للحرمين الشريفين تتوسع باستمرار دون توقف.أقول نعم كل هذا يحدث على أرض الواقع وفي
الزمن الحاضر، لكنني أتحفظ على جودة القرار، وجودة الإنفاق، وجودة الأداء، والأهم
من ذلك وهنا مربط الفرس، أقول إن هذا الواقع الحاضر بكل ضجيجه ودخانه وبخاره
وغباره لا يشكل في نظري قاعدة إنتاجية صلبة بشرية ومادية، قادرة على تحمل الهزات
الأرضية العنيفة التي قد يحملها المستقبل البترولي المجهول، أو قل المشكوك في
أمره، أو قل غير المؤكد استمراره على حاله.
المستقبل هو
امتداد للحاضر، والحاضر في جانبه الإنتاجي الفردي وفي جانبه الإنتاجي الحكومي سيئ
وضعيف جداً، يصعب أن نبني عليه قاعدة إنتاجية تستبدل كلياً أو بشكل كبير الدخل
البترولي المشكوك في مستقبله وتؤمن للأجيال القادمة حياة اقتصادية، تنتج دخلاً
يلبي حاجاتها الاستهلاكية والاستثمارية والدفاعية والأمنية والتعليمية والإسكانية
والصحية. اقتصاد منتج
مستدام متنامٍ يحقق للفرد رفاهية العيش الكريم، وللوطن حريته وكرامته.
يحلو لكثير من كبار المسؤولين، ومن بينهم الوزراء ورجال
الإعلام الحكومي ومن تنازلوا عن ضمائرهم وعن سيادة كلمة الحق على المصالح الذاتية
من رجال القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، وبما في ذلك بعض المؤسسات المالية
الدولية، أن يرسموا لمستقبل هذه الأمة صورة اقتصادية زاهرة، ويعرضوها في كل فعالية
وفرصة أمام المسؤول الأول عن مستقبل الأمة، بينما الواقع كما أراه ويراه غيري،
يرسم مستقبلاً تحيط به المخاطر من كل جانب، وقد يؤدي بنا إلى هاوية سحيقة في نهاية
المطاف إن نحن ظللنا على نفس الدرب سائرين.
أنا لا ألوم العامة إن هي انشغلت بقوت يومها لكنني لا أفهم كيف
لا يرى المسؤول الحاجة الملحة إلى مراجعة الاستراتيجيات والخطط الاقتصادية
والبترولية والمالية الراهنة؛ درءاً ومنعاً لأي احتمال أن نكون في غير الاتجاه
الصحيح سائرين. الاقتصاد
الوطني قائم مثل الخيمة العربية على عمود واحد هو البترول، الذي إن انحنى أو انكسر
سقطت الخيمة على رؤوس من فيها كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.
أنا لا أدعي أن ما سبق أن قلته ورددته وأعيد قوله اليوم في هذا
المقال هو الحقيقة المطلقة لكنني أؤكد أن استقراء المستقبل بعين المختص من خلال
البيانات الإحصائية والظواهر الاقتصادية التي أوصلتني وأوصلت غيري إلى مثل هذه الرؤية
المستقبلية المظلمة للاقتصاد السعودي، لابد أن تثير تساؤلات لدى صاحب القرار ليطلب
من وزرائه الذين أوكل إليهم إدارة الشأن الاقتصادي والبترولي والمالي مراجعة
فرضياتهم وخططهم، والإجابة على النقد والتساؤلات والشكوك حول منهجنا الاقتصادي
واستراتيجيتنا الاقتصادية.
إن العلاج الناجع والطريق السليم، يبدأ أولاً وقبل كل شيء
ببناء الإنسان المواطن وتحريره من ظلمات الجهل والتخلف والفقر، ولن يكون ذلك إلا
بتغيير جذري منهجي علمي فاعل لمنظومة التعليم بكل مراحلها وأطوارها ومؤسساتها
وعناصرها وهذا يتطلب كسر الحواجز وفك الأغلال التي أبقت على نظام التعليم ومناهجه
ومدرسيه وإدارته ومبانيه وطلابه مربوطين في درجات السلم الأول، بينما يتسابق
العالم صعوداً إلى أعلى.
عقل الإنسان السعودي يجب أن يبنى على أسس تحتل فيها منظومة
العلوم الرياضية والتكنولوجية والكيميائية بكل فروعها المكان الأكبر والأعلى
والأهم في جغرافية العقل السعودي وتضاريسه. ومن العقل
المبني بناء علميا يولد الإبداع والإنتاج ويتبعه السلوك الإيجابي الفردي والجمعي.
مع بناء الإنسان وبالتوازي، تبنى قواعد اقتصادية إنتاجية
قيمتها المضافة أكبر من تكاليفها، ويصبح في نهاية الطريق لدينا اقتصاد أداؤه وحجمه
ونموه قائم على شعب منتج مبدع يأكل من إنتاجه وتصديره للسلع والخدمات، وليس من
استخراج بتروله من باطن الأرض يبيعه ويأكل من ريعه. وعندما ينتهي بتروله أو تجف آباره، يعود
أدراجه إلى الفقر والحاجة بعد أن يتآكل عمود خيمته وتهتز أركانها وتسقط على رأسه،
وعندها تكون الفرصة قد ضاعت والأموال قد قلت والمياه قد جفت والأعداد قد وصلت إلى
الخمسين مليوناً أو أكثر.
لذا أقول وأكرر القول إن منظومة الإصلاح على كل الأصعدة وفي كل
المجالات يجب أن تبدأ الآن ودونما أي تأخير أو تردد، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية
فاعلة ترى بكل وضوح أخطار المستقبل وضرورة تفاديها.
واقعنا يقول:
عندما أنظر إلى حجم الواردات من سلع وخدمات (2013 م) أجدها قد بلغت 574.1 بليون ريال سعودي، ثم أنظر إلى الأعداد البشرية التي تولد كل يوم مضيفة أعداداً جديدة إلى الأعداد الكبيرة من الأطفال والشباب الذين تربو نسبتهم على 50% من إجمالي السكان في المملكة، ومع تزايد أعداد الأطفال والشباب تتزايد الحاجة المستقبلية للإنفاق على التعليم والسكن والصحة والخدمات الأخرى.
يحلو لكثير من كبار المسؤولين، ومن بينهم الوزراء ورجال الإعلام الحكومي ومن تنازلوا عن ضمائرهم وعن سيادة كلمة الحق على المصالح الذاتية من رجال القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، وبما في ذلك بعض المؤسسات المالية الدولية، أن يرسموا لمستقبل هذه الأمة صورة اقتصادية زاهرة، ويعرضوها في كل فعالية وفرصة أمام المسؤول الأول عن مستقبل الأمة، بينما الواقع كما أراه ويراه غيري، يرسم مستقبلاً تحيط به المخاطر من كل جانب، وقد يؤدي بنا إلى هاوية سحيقة في نهاية المطاف إن نحن ظللنا على نفس الدرب سائرين.
أنا لا ألوم العامة إن هي انشغلت بقوت يومها لكنني لا أفهم كيف لا يرى المسؤول الحاجة الملحة إلى مراجعة الاستراتيجيات والخطط الاقتصادية والبترولية والمالية الراهنة؛ درءاً ومنعاً لأي احتمال أن نكون في غير الاتجاه الصحيح سائرين. الاقتصاد الوطني قائم مثل الخيمة العربية على عمود واحد هو البترول، الذي إن انحنى أو انكسر سقطت الخيمة على رؤوس من فيها كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.
أنا لا أدعي أن ما سبق أن قلته ورددته وأعيد قوله اليوم في هذا المقال هو الحقيقة المطلقة لكنني أؤكد أن استقراء المستقبل بعين المختص من خلال البيانات الإحصائية والظواهر الاقتصادية التي أوصلتني وأوصلت غيري إلى مثل هذه الرؤية المستقبلية المظلمة للاقتصاد السعودي، لابد أن تثير تساؤلات لدى صاحب القرار ليطلب من وزرائه الذين أوكل إليهم إدارة الشأن الاقتصادي والبترولي والمالي مراجعة فرضياتهم وخططهم، والإجابة على النقد والتساؤلات والشكوك حول منهجنا الاقتصادي واستراتيجيتنا الاقتصادية.
إن العلاج الناجع والطريق السليم، يبدأ أولاً وقبل كل شيء ببناء الإنسان المواطن وتحريره من ظلمات الجهل والتخلف والفقر، ولن يكون ذلك إلا بتغيير جذري منهجي علمي فاعل لمنظومة التعليم بكل مراحلها وأطوارها ومؤسساتها وعناصرها وهذا يتطلب كسر الحواجز وفك الأغلال التي أبقت على نظام التعليم ومناهجه ومدرسيه وإدارته ومبانيه وطلابه مربوطين في درجات السلم الأول، بينما يتسابق العالم صعوداً إلى أعلى.
عقل الإنسان السعودي يجب أن يبنى على أسس تحتل فيها منظومة العلوم الرياضية والتكنولوجية والكيميائية بكل فروعها المكان الأكبر والأعلى والأهم في جغرافية العقل السعودي وتضاريسه. ومن العقل المبني بناء علميا يولد الإبداع والإنتاج ويتبعه السلوك الإيجابي الفردي والجمعي.
مع بناء الإنسان وبالتوازي، تبنى قواعد اقتصادية إنتاجية قيمتها المضافة أكبر من تكاليفها، ويصبح في نهاية الطريق لدينا اقتصاد أداؤه وحجمه ونموه قائم على شعب منتج مبدع يأكل من إنتاجه وتصديره للسلع والخدمات، وليس من استخراج بتروله من باطن الأرض يبيعه ويأكل من ريعه. وعندما ينتهي بتروله أو تجف آباره، يعود أدراجه إلى الفقر والحاجة بعد أن يتآكل عمود خيمته وتهتز أركانها وتسقط على رأسه، وعندها تكون الفرصة قد ضاعت والأموال قد قلت والمياه قد جفت والأعداد قد وصلت إلى الخمسين مليوناً أو أكثر.
لذا أقول وأكرر القول إن منظومة الإصلاح على كل الأصعدة وفي كل المجالات يجب أن تبدأ الآن ودونما أي تأخير أو تردد، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية فاعلة ترى بكل وضوح أخطار المستقبل وضرورة تفاديها.
هل السقوط في الهاوية أمر محتوم ؟![4]
17/3/2014م
قبل البدء، أود
أن أنوه عن التفاعل الكبير مع المقال السابق «لكي لا نقع في الهاوية» من خلال وسائل التواصل
الاجتماعي أو التعليق المباشر في صفحة المقال. وقد أوضح حجم التفاعل وامتداده جغرافياً،
أن قضية المستقبل هاجس محسوس وملموس بين أفراد المجتمع إذا جاز لنا اعتبار تلك
العينة ممثلة للمجتمع. التفاعل كان
إيجابياً بشكل كبير، والجميل في وسائل التواصل الاجتماعي أنها مفتوحة للجميع بكل
شفافية وحرية. وأرجو أن تصاب
صحافتنا الوطنية بهذه العدوى المباركة.
هذا من حيث
الجمهور، أما من جانب المسؤولين المعنيِّين بالموضوع فلسان حالهم يقول: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لكن علينا ألا نستعجل الأمر، فقد يكون
هناك من القضايا ما هو أهم من السقوط في الهاوية لا قدَّر الله، أو أن الأمر يحتاج
إلى دراسة وتحليل قبل أن يكون لهم ردٌّ أو تساؤل.
أنا وغيري ممن ينشدون الإصلاح، ليس من واجبنا أن ننتزع السؤال
أو الإجابة أو الإيضاح من فم المسؤول، لكن واجبنا الوطني يحتِّم علينا قول ما
نعتقد أنه كلمة حق ونُلحُّ في طلب الإجابة فهذا حق لكل مواطن، فإن أصبنا فلنا
الأجر وإن أخطأنا فلنا أجران.
أعود بعد هذه
المقدمة إلى سؤال العنوان «هل السقوط في
الهاوية أمر محتوم؟»، والإجابة
بشكل مباشر «هي بالنفي ولكن». هي بالنفي إن عدَّلنا الاتجاه وغيَّرنا
المسار وقمنا بالإصلاح المطلوب لتفادي الوقوع في الهاوية الاقتصادية، ولكن إن
ظللنا على نفس الطريق سائرين فالإجابة بنعم.
ويبقى السؤال: ما هو الإصلاح
المطلوب؟
وهنا أقول إن
كل شيء في هذه الدنيا يبدأ بالإنسان وينتهي إلى الإنسان. في علم الاقتصاد نقول: إن الإنسان هو هدف التنمية وهو وسيلتها،
من هو الإنسان المعني في هذا المقال والمقام؟
الإنسان هو
المواطن الذي يشكِّل تاريخ هذا الوطن ودينه ولغته وهويته، ويشكل مستقبل هذا الوطن
ومصيره وحلمه واهتمامه ومسؤوليته. هذا هو
المواطن، هو الرجل وهو المرأة، هذا المواطن هو الشرقي والغربي والشمالي والجنوبي،
هذا المواطن هو كل الأطياف والأعراق من البشر التي جعلت من أرض هذا الوطن وطناً
لها، ومن تاريخ هذا الوطن تاريخاً لها، ومن لغة هذا الوطن ودينه هوية لها.هذا هو المواطن الذي يجب
أن يكون العمود الفقري والمكون الرئيس والأساسي في منظومة الإصلاح والتنمية، في
الاستراتيجيات وفي الخطط لبناء مستقبل الأمة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إذا كان هذا
الثقل والوزن للإنسان المواطن في معادلة الإصلاح والتنمية المستدامة، فما هي أهم
القواعد التي يجب بناؤها في هذا الإنسان المواطن الذي يُبنَى على أكتافه وبجهده
حاضر الأمة ومستقبلها؟
ثلاث قواعد أساسية وجوهرية، إن بُني على أساسها وبموجبها
المواطن صلح جسد الأمة كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي:
أولاً: صحة العقل الإنسان يولد بعقل جاهز
لاستقبال التكوين المعرفي ومباشرة دوره في توجيه الإنسان وإدارة أفعاله وأقواله. يكتسب العقل نضجه وجاهزيته من كل ما يحيط
به منذ ولادة الإنسان، وفي بعض الأقوال: وهو في بطن
أمه، ومن أهم تلك المدخلات التي تبني عقل الإنسان وقدراته «التعليم» الذي يبدأ منذ الصغر وكما قيل «العلم في الصغر كالنقش في الحجر».
في بداية القرن
العشرين في المملكة خصوصاً في القرى كان من يعرف القراءة والكتابة يشار إليه
بالبنان، وكان العلم يؤخذ على يد رجال الدين في المساجد أو الكتاتيب. تغيرت العلوم والمعارف فتغير بذلك
الإنسان وتغير الزمن وتغير العالم من حولنا. العلوم
والمعارف القديمة بنظرياتها ومقدماتها ونتائجها أُخضعت من قبل العقل البشري العالم
للمراجعة والتفكيك والتحليل والنقد والتطوير، نحا العقل البشري نحو العلوم
التطبيقية الرياضية والهندسية والفيزيائية والكيميائية والذرية.. إلخ.. فتوالت الاختراعات وقامت الصناعات وظهرت
المنتجات والخدمات التي غيرت الإنسان والحياة البشرية، وبناءً عليه تغيرت المناهج
الدراسية في العالم المتقدم اليوم صناعياً وتقنياً في كل المراحل التعليمية خصوصاً
الابتدائية، لأنها الأساس في المنظومة التعليمية والتربوية، وأصبحت المعرفة
بمحتواها العلمي وليس الأدبي والفقهي كما كان سابقاً، لها السيادة والريادة في
تكوين العقل العلمي المنتج المبدع المخترع. أما المناهج
التي ينهل منها أبناؤنا وبناتنا اليوم في جميع مراحلهم التعليمية من الابتدائية
حتى الجامعية، فهي في الزمن الماضي تزحف خطوات إلى الأمام بينما العالم يسير بسرعة
الضوء محاولاً كشف أسرار الأجرام السماوية بعد أن أصبحت الأرض لا تُشبع نهمه
العلمي وتعطُّشه للاكتشاف والمعرفة. إن نظامنا
التعليمي بلا شك يحتاج إلى إصلاح جذري وتغيير منهجي يصل إلى عمق المشكلة المرتبطة
بالمنهج الفقير في محتواه العلمي والفلسفي والمتخم في محتواه الأدبي والفقهي. المحتوى الأدبي والتراثي في مناهجنا
الدراسية اليوم يحتاج إلى تحديث وتطوير، والمحتوى الفقهي يحتاج إلى أن ترفع عنه
عقلية التحريم القائمة على باب سد الذرائع ليحل محلها فقه التيسير الذي يقوم على
قاعدة فقهية هي في نظري أكثر ملاءمة لحال الإسلام والمسلمين في هذا العصر، هذه
القاعدة تقول إن الأصل في الأشياء أنها حلال إلا ما جاء نص صريح في القرآن الكريم
بتحريمه أو ورد بذلك حديث صحيح عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وبما أن الأمر لا يتعلق بمخالفة نص قرآني
أو حديث نبوي صحيح، وإنما بفقه لرجال أجلَّاء عِظام يؤخذ منهم ويرد عليهم، فالأمة
في حِلٍّ من أمرها في الأخذ من الفقه الإسلامي ما يحمي المصلحة العليا للأمة
الإسلامية ويدفع بها إلى الرقي والتقدم الحضاري والاقتصادي. هذا ما تعلمته طالباً في مدرسة «دار الحديث» في المدينة المنورة، وفقهته على يد فقهاء
أجلَّاء في مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لذا فإنني أقول إن مناهجنا الدراسية يجب أن يكون ضمن محتواها
وتكوينها فقه إسلامي معاصر يحافظ على العقيدة من جهة ويفك قيد العقل من ذهنية
التحريم القائمة على المكروه وسد باب الذرائع.
الثانية: صحة الأبدان
المواطن إن اعتلت صحته عجز عن العمل وأصبح بحكم عجزه الصحي غير قادر على التعلم
والإنتاج، وهذا يؤدي بالتالي إلى عجز في بناء عقل الإنسان بناءً علمياً مبدعاً،
فالعقل السليم في الجسم السليم. إن القاعدة
الثانية في استراتيجية الإصلاح لتفادي الوقوع في الهاوية هي الاستثمار في توفير
الخدمات الصحية بكل مستوياتها من الأوليَّة حتى التخصصية، وأن تكون هذه الخدمات
متوفرة لكل من يحتاجها من المواطنين، وألا تكون ميسَّرة لأصحاب السلطة والجاه
والمال عزيزة على العامة والمحتاجين من الشعب.
الرعاية الصحية في المملكة هي أقل بكثير من المطلوب واللازم
والضروري لبناء الإنسان المنتج المتعلم، وأقل بكثير من حاجة المواطن الصحية. المرض يدمر طاقة الإنسان وقدرته على
التعلم ويمنعه من الإنتاج ويشلُّ حركته ويعيق إبداعه.
الاستثمار في
توفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين، بدءاً بالفقراء والمحتاجين، هو ضمان لصحة
وسلامة المجتمع، وتهيئة للإنسان ليكون قادراً على التعلم وكسب المهارات ليكون
مواطناً صالحاً منتجاً، وهذه ركيزة أساسية في استراتيجية المستقبل.
الثالثة: حرية الإنسان يفقد الإنسان كل مقوماته
وقدراته وكرامته وإنسانيته إن هو فقد حريته، الحرية لا تعني المجون والفسق والعبث،
وعدم الالتزام الديني والأخلاقي والإنساني والوطني، بل هي على النقيض من ذلك،
فالإنسان الحر هو إنسان مسؤول وملتزم، الحرية تكسبه الكرامة وتلزمه بالمسؤولية،
فكل معتقل مسلوب الحرية، تسقط عنه المسؤولية، هذه شريعة الله في خلقه وشريعة العدل
بين الناس.
فلو هُيِّئ للإنسان عقل عامر بالعلم والمعرفة «الأولى» وألبس جسمه الصحة والعافية «الثانية»، ثم سلبت منه حرية القول والفعل والفكر
والرأي، لم ينفعه عقله ولن ينفعه جسمه وسيظل إنساناً معاقاً مكبلاً غير منتج،
عبداً يساق إلى غير إرادته، فاقد الرأي والإخلاص والإبداع وبذلك يفقد الإنسان
المواطن مقومات الحياة الحرة الكريمة على أرضه ويفقد معها ولاءه للوطن وللمجتمع. وفي هذه الحالة الموسومة بضعف أو انعدام
حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، لا يمكن بناء وطن من مواطنين فاقدي الحرية والإرادة
والولاء. وبناءً عليه
فإن حرية المواطن، يجب أن تكون القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع مؤسسات
السلطة السياسية بكل أشكالها: التنفيذية
والتشريعية والقضائية، وهذا ما أسميه بالإصلاح السياسي.
إن الإصلاح
السياسي هو القاعدة الأساسية والأرضية الصلبة التي يجب أن يبنى عليها كل إصلاح
يهدف إلى بناء الإنسان المواطن الصالح المنتج المبدع المتحضر لكي يُبنَى منه وبه
المجتمع الصالح المنتج المبدع المتحضر، وعندها يبقى البترول أو يذهب، ستكون
التنمية مستدامة ويكون الطريق إلى المستقبل آمناً من كل هاوية.
من المسؤول عن الأمر بالإصلاح وتنفيذه؟
دعوات الإصلاح
كثيرة ودعوتي واحدة منها، لكن مربط الفرس وجوهر القضية هي في: من هو القادر على الأمر بتنفيذ الإصلاح
ومتابعة تنفيذه والوقوف في وجه من يُعيقه؟
والإجابة
المباشرة على هذا السؤال هي: إن المسؤول
والقادر على تنفيذ الإصلاحات المهمة هو صاحب القرار الأول والمسؤول عن رعاية
وحماية مستقبل الأمة. في الماضي كانت
دعوات الإصلاح محصورة في عدد من المثقفين والمهتمين بالشأن العام، وقد يجري تجاهل
هذه الدعوات أو تأجيل النظر فيها من باب أن هناك متسعاً من الوقت، أو أن الأمر لا
يعني غالبية الشعب. اليوم الوضع
يختلف كلياً من وجهة نظري؛ لأن الدعوة إلى الإصلاح أصبحت عامة وليست محصورة في
دوائر ضيقة، يلمسها كل مهتم ومتابع للشأن العام. يلمسها في حديثه مع العامة، مع الطلاب،
مع المثقفين ومع الأغنياء ومع الفقراء ومع بعض المسؤولين. إن تراكم المشكلات وانتشارها سيؤدي إلى
الإحباط والقنوط لدى العامة، ومع تفاقم الأمور من جهة وعدم شعور المواطن أن شيئاً
من الإصلاح الحقيقي قد بدأ، سيفسح المجال للمتطرفين للدخول إلى الساحة. لذا أقول وأكرر القول إن الإصلاح يحتاج
إلى إرادة سياسية عليا فاعلة ترى بوضوح الخطر الداهم على هذا الوطن وتأخذ بيدها
قرار الإصلاح وتنفيذه.
أنا وغيري ممن ينشدون الإصلاح، ليس من واجبنا أن ننتزع السؤال أو الإجابة أو الإيضاح من فم المسؤول، لكن واجبنا الوطني يحتِّم علينا قول ما نعتقد أنه كلمة حق ونُلحُّ في طلب الإجابة فهذا حق لكل مواطن، فإن أصبنا فلنا الأجر وإن أخطأنا فلنا أجران.
ويبقى السؤال: ما هو الإصلاح المطلوب؟
ثلاث قواعد أساسية وجوهرية، إن بُني على أساسها وبموجبها المواطن صلح جسد الأمة كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي:
لذا فإنني أقول إن مناهجنا الدراسية يجب أن يكون ضمن محتواها وتكوينها فقه إسلامي معاصر يحافظ على العقيدة من جهة ويفك قيد العقل من ذهنية التحريم القائمة على المكروه وسد باب الذرائع.
الثانية: صحة الأبدان المواطن إن اعتلت صحته عجز عن العمل وأصبح بحكم عجزه الصحي غير قادر على التعلم والإنتاج، وهذا يؤدي بالتالي إلى عجز في بناء عقل الإنسان بناءً علمياً مبدعاً، فالعقل السليم في الجسم السليم. إن القاعدة الثانية في استراتيجية الإصلاح لتفادي الوقوع في الهاوية هي الاستثمار في توفير الخدمات الصحية بكل مستوياتها من الأوليَّة حتى التخصصية، وأن تكون هذه الخدمات متوفرة لكل من يحتاجها من المواطنين، وألا تكون ميسَّرة لأصحاب السلطة والجاه والمال عزيزة على العامة والمحتاجين من الشعب.
الرعاية الصحية في المملكة هي أقل بكثير من المطلوب واللازم والضروري لبناء الإنسان المنتج المتعلم، وأقل بكثير من حاجة المواطن الصحية. المرض يدمر طاقة الإنسان وقدرته على التعلم ويمنعه من الإنتاج ويشلُّ حركته ويعيق إبداعه.
فلو هُيِّئ للإنسان عقل عامر بالعلم والمعرفة «الأولى» وألبس جسمه الصحة والعافية «الثانية»، ثم سلبت منه حرية القول والفعل والفكر والرأي، لم ينفعه عقله ولن ينفعه جسمه وسيظل إنساناً معاقاً مكبلاً غير منتج، عبداً يساق إلى غير إرادته، فاقد الرأي والإخلاص والإبداع وبذلك يفقد الإنسان المواطن مقومات الحياة الحرة الكريمة على أرضه ويفقد معها ولاءه للوطن وللمجتمع. وفي هذه الحالة الموسومة بضعف أو انعدام حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، لا يمكن بناء وطن من مواطنين فاقدي الحرية والإرادة والولاء. وبناءً عليه فإن حرية المواطن، يجب أن تكون القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع مؤسسات السلطة السياسية بكل أشكالها: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا ما أسميه بالإصلاح السياسي.
من المسؤول عن الأمر بالإصلاح وتنفيذه؟
المالية العامة للدولة حالها وأحوالها[5]
24/3/ 2014 م
المالية العامة
للدولة تشبه المالية الخاصة للفرد، في جانب منها ترصد الإيرادات (الدخل)، وفي الجانب الآخر النفقات. وعندما يساوي دخل الفرد نفقاته تكون
حالته المالية متوازنة لا فائض ولا عجز، و إن زادت إيراداته على نفقاته، يكون لديه
وفر وفائض يحفظه جانباً ويبقيه لحاجته المستقبلية كما يقول المثل الشعبي «احفظ القرش الأبيض لليوم الأسود». أما إن زادت نفقاته على إيراداته، فالأمر
يحتاج إلى معالجة مالية إما أن يستدين أو يبيع شيئاً من أصوله الرأسمالية، بيته
على سبيل المثال.
حال المالية
العامة للدولة هي كذلك من حيث المبدأ، لكنها تختلف من حيث الحجم و البنود والإدارة.
موضوعنا هو المالية العامة للدولة في المملكة العربية السعودية
من حيث مكوناتها الأساسية وتقلباتها، لكنني في هذا المقال سوف أتعرض لجانب
الإيرادات أما جانب النفقات فسوف يكون موضوعاً لمقال آخر.
توضح القراءة التاريخية لوضع المالية العامة للدولة تقلباً
حاداً أحياناً، ما بين الفائض والعجز. ففي عام 1960م كان إجمالي إيرادات الدولة 20,3 76,496 مليون ريال سعودي. وبلغت النفقات الحكومية في نفس العام (137,422) مليون ريال سعودي، وبذلك كان عجز
الميزانية (60,926 ) مليون ريال
سعودي. وفي العام 1981م بلغت الإيرادات (368,000) مليون ريال سعودي، مقابل نفقات حكومية في
نفس العام بلغت (284,651) مليون ريال، أي
بفائض قدره (83,354) مليون ريال. وهكذا دواليك كانت أمور المالية العامة
تتقلب بين مد وجزر.
أن يكون وضع
الميزانية السنوية للدولة فيه شيء من الفائض أو شيء من العجز فهذا أمر مرتبط
بالسياسة المالية العامة fiscal policy للدولة وظروفها
الاقتصادية، وهل الاقتصاد في حالة نمو أم انكماش. المهم في الأمر هو حجم وسرعة التغير في
وضع الميزانية العامة للدولة بين العجز والفائض.
فحص وتحليل المتتالية التاريخية لميزانية المملكة يوضح تقلبات
متتالية بين العجز والفائض تكون في بعض الأحيان حادة وسريعة. ففي عام (1972) كانت إيرادات الدولة 15,367 مليون ريال قفزت بعد عامين ( 1974) إلى 100,102 مليون ريال ثم قفزت مرة أخرى في عام (1981) إلى 368,006 ريال ثم هبطت بشكل حاد بعد أربعة أعوام
فقط (1985) إلى 133,563 مليون ريال. انظر (Abdulaziz M.Aldukheil: Saudi Government Revenues and Expenditures,
A Financial Crisis in the Making, Palgave, Macmillan, 2013.)
هذه الحقائق
الرقمية وغيرها لحال الميزانية السعودية في جانب الإيرادات تنم عن خلل بنيوي
تكويني) في البنية
الأساسية لمصادر الإيرادات الحكومية في ميزانية الدولة سببه التقلب في أسعار البترول
الذي يعتبر الممول الرئيس لإيرادات الدولة وميزانيتها.
ويكون السؤل
بذلك ما هو الخلل؟.
دعوني أعود بكم
إلى العام 1952م، ففي هذا
العام أوشكت الدولة على الإفلاس وذلك بسبب ضعف الإيرادات
وزيادة حجم
الإنفاق، وكان حينها إيراد الدولة من البترول قليلاً بسبب قلة حجم الصادرات
البترولية بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
طلبت الحكومة
السعودية آنذاك مساعدة صندوق النقد الدولي في ترتيب وضبط الأمور المالية والنقدية،
فأرسل الصندوق بعثة رأسها المرحوم السيد أنور علي وهو باكستاني الجنسية، وضعت
البعثة خطة لإعادة التوازن إلى المالية العامة للدولة ودعم قيمة الريال الذي كان
على حافة الانهيار. عُين السيد
أنور بعد ذلك محافظاً لمؤسسة النقد العربي السعودي ومُنح الجنسية السعودية. ( انظر Arthur N.Young “Saudi Arabia Currency and Finance» The Middle
East Journal 7.NO3 (1953.
لننتقل الآن من العام 1952م إلى العام
الحالي 2014م، أي بعد ما
يزيد على 60 عاماً و ننظر
إلى حال المالية العامة للدولة وأحوالها. أما حالها أي
تكوينها فلا يزال على ما هو عليه، اعتماد أساسي وكلي على الإيرادات النفطية. ففي العام 1960م (حسب إحصاءات مؤسسة النقد) كانت إيرادات البترول تمثل 80,6% وفي العام 2014 ارتفعت نسبة اعتماد الإيرادات العامة على
البترول إلى 93%.
هل يعتبر
اعتماد إيرادات الدولة بهذه النسبة العالية على النفط خللاً جوهرياً في بنيان
الاقتصاد الوطني؟.
الإجابة على هذا السؤال هي أنه، مادام الاعتماد على النفط بهذه
النسبة العالية ومادام مستقبل أسعار النفط ومصيره ومستواه محكوم بعوامل سياسية
واستراتجية واقتصادية هي بيد الدول العظمى وليست بأيدينا، فالخلل في بنية منابع
الإيرادات الحكومية كبير. لماذا؟.
لأن البترول
مادة محدودة الحجم حتى وإن كبر ذلك الحجم، فإنه يتناقص بشكل مستمر بفعل الاستخراج. ثمنه يعتمد على حجم الطلب العالمي عليه
وعلى ندرته. والدول
المستوردة للنفط خصوصاً الصناعية تحاول الحد من الطلب عليه أو استبداله إن أمكن.
ما علاقة
الإيرادات الحكومية بالاقتصاد الوطني؟
الإنفاق
الحكومي يتم تمويله كلياً من إيرادات الميزانية الحكومية، والإنفاق الحكومي هو
المحرك الأساسي
للاقتصاد
السعودي، فإذا كان الممول الأساسي للإنفاق الحكومي والعمود الفقري للاقتصاد
السعودي به خلل بنيوي، فإن هذا يعني بالتالي أن الاقتصاد السعودي يعاني في بنيته
الأساسية خللاً يهدد استقرار الاقتصاد وسلامته وقدرته على تحقيق تنمية حقيقية
مستدامة.
إذا كانت
البنية الحالية للاقتصاد الوطني ضعيفة ونخشى على مستقبل الاقتصاد منها، فكيف لنا
إعادة بناء الاقتصاد الوطني بشكل يؤدي إلى تنمية مستدامة قائمة على بنية اقتصادية
سليمة؟.
هذا سؤال يتعلق بماهية الإستراتيجية الاقتصادية السليمة، وحيث
إن الموضوع يتعلق بالاستراتيجية، فإن الإجابة سوف تقتصر على العوامل الاستراتيجية
التي يجب أن يبنى عليها الاقتصاد السعودي وهي في نظري مايلي :
أولاً: الحد من
الإنفاق الحكومي الذي لا يصب بشكل مباشر في بناء الإنسان، أي في صحته وتعليمه
وسكنه، وأن يكون هذا الإنفاق مبنياً على خطط وبرامج أخضعت للمعايير المهنية
والاقتصادية.
ثانياً : الحد من
الإنفاق الحكومي على المشاريع التي لا تحظى بجدوى اقتصادية استثمارية عالية
والأمثلة هنا كثيرة.
ثالثاً : الحد من الهدر
والفساد المالي الحكومي وإخضاع العابثين بالمال العام للمساءلة والحساب والعقاب
بصرف النظر عن سلطتهم السياسية أو قدراتهم المالية.
رابعاً :تحديد المعدل الأمثل لاستخراج النفط
السعودي، بما يحقق تعظيم القيمة النهائية والكلية للاحتياطات النفطية السعودية،
ليستفيد منه الجيل الحاضر والأجيال المقبلة.
خامساً: فرض ضرائب مباشرة على الأرباح العالية
للشركات وعلى الدخل العالي للأفراد من أجل زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية
لتمويل الإنفاق الحكومي. ولكنه يجب
التأكيد والتشديد هنا على أن المبدأ الأساسي والفريضة الكبرى لأي نظام ضريبي هي
العدالة في فرض الضريبة وهذا يعني بالتحديد:
• أن تفرض الضريبة على جميع الخاضعين لها دون استثناء لأي فرد أو
شركة مهما كان الجاه السياسي أو الحجم المالي لهذا الفرد أو تلك الشركة.
• أن تكون الضريبة تصاعدية
بشكل أساسي أي يُعفى الفقراء والمحتاجون منها وتفرض تصاعدياً على دخل الأفراد
وأرباح الشركات مع مراعاة الأثر الضريبي على نمو وتزايد حركة الاستثمار والإنتاج.
سادساً : الاستثمار
الاقتصادي في تطوير تقنية تحلية المياه، ومصادر الطاقة المتجددة والبحث العلمي
والثروة السمكية.
سابعاً: الحد من معدل
النمو السكاني المرتفع جداً، وذلك بالوسائل المختلفة ومنها التوعية بأهمية التنظيم
الأسري، من حيث عدد الأطفال، وأثره الإيجابي على دخل الأسرة ورفاهيتها.
قد يكون هناك
أمور أخرى يرى بعضهم أهميتها، لكنني هنا وكما أسلفت اقتصرت على العوامل
الاستراتيجية لأن حديثنا يتعلق بالاستراتيجية الاقتصادية.
ومرة أخرى أكرر
ما أنهيت به مقالاتي السابقة، وهو أن الإصلاح يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى إرادة
سياسية عليا فعالة، تؤمن بأهمية الإصلاح الاقتصادي، وتعقد العزم على تنفيذه بتأمين
وجود الآليات والسياسات والهيئات والأشخاص ذوي الكفاءة والإخلاص وتكليفهم بالمهمة.
وشهد شاهد من
أهلها:
أوردت العربية
نت في يوم الإثنين الموافق 4 مارس2014 تصريحاً لرئيس بعثة صندوق النقد الدولي (السيد تيم كالين) قال فيه «إن السعودية تواجه تحدي مواكبة النمو
الاقتصادي والاستمرار عليه بخلق الفرص الوظيفية، مؤكداً أهمية ألا تعتمد المملكة
في إيراداتها على النفط فقط، إذ من المحتمل أن تنخفض أسعاره ما يؤدي إلى تراجع
الإيرادات مستقبلاً، وعليها أن تنوع مصادر الإيرادات وخلق فرص أخرى للموارد
المالية. وتساءل في حال
انخفاض أسعار النفط ماذا ستفعل المملكة» وأضاف السيد
تيم كالين في تصريح آخر، أن الصندوق نصح وزارة المالية بالحد من الإنفاق الحكومي.
وهنا أضيف أنني
سبق أن قلت إن العلاقة الحميمة ما بين السعودية وصندوق النقد الدولي تعكس نفسها
على شيء من المجاملات. لكنه يبدو أن
الأمانة المهنية في نهاية المطاف يجب أن تكون لها الغلبة وإن كان ذلك سراً أو بصوت
منخفض. فالاعتماد شبه
الكلي على النفط في تمويل النفقات الحكومية وبها ومعها الاقتصاد السعودي من جانب
والزيادة المتصاعدة في الإنفاق الحكومي الاستهلاكي أو غير المجدي اقتصاديا، يشكل
خطرا على مستقبل الاقتصاد السعودي وعلى مستقبل الأمة، وهذا ما قلته وقاله غيري
كثيرون ومنذ زمن.
موضوعنا هو المالية العامة للدولة في المملكة العربية السعودية من حيث مكوناتها الأساسية وتقلباتها، لكنني في هذا المقال سوف أتعرض لجانب الإيرادات أما جانب النفقات فسوف يكون موضوعاً لمقال آخر.
توضح القراءة التاريخية لوضع المالية العامة للدولة تقلباً حاداً أحياناً، ما بين الفائض والعجز. ففي عام 1960م كان إجمالي إيرادات الدولة 20,3 76,496 مليون ريال سعودي. وبلغت النفقات الحكومية في نفس العام (137,422) مليون ريال سعودي، وبذلك كان عجز الميزانية (60,926 ) مليون ريال سعودي. وفي العام 1981م بلغت الإيرادات (368,000) مليون ريال سعودي، مقابل نفقات حكومية في نفس العام بلغت (284,651) مليون ريال، أي بفائض قدره (83,354) مليون ريال. وهكذا دواليك كانت أمور المالية العامة تتقلب بين مد وجزر.
فحص وتحليل المتتالية التاريخية لميزانية المملكة يوضح تقلبات متتالية بين العجز والفائض تكون في بعض الأحيان حادة وسريعة. ففي عام (1972) كانت إيرادات الدولة 15,367 مليون ريال قفزت بعد عامين ( 1974) إلى 100,102 مليون ريال ثم قفزت مرة أخرى في عام (1981) إلى 368,006 ريال ثم هبطت بشكل حاد بعد أربعة أعوام فقط (1985) إلى 133,563 مليون ريال. انظر (Abdulaziz M.Aldukheil: Saudi Government Revenues and Expenditures, A Financial Crisis in the Making, Palgave, Macmillan, 2013.)
لننتقل الآن من العام 1952م إلى العام الحالي 2014م، أي بعد ما يزيد على 60 عاماً و ننظر إلى حال المالية العامة للدولة وأحوالها. أما حالها أي تكوينها فلا يزال على ما هو عليه، اعتماد أساسي وكلي على الإيرادات النفطية. ففي العام 1960م (حسب إحصاءات مؤسسة النقد) كانت إيرادات البترول تمثل 80,6% وفي العام 2014 ارتفعت نسبة اعتماد الإيرادات العامة على البترول إلى 93%.
الإجابة على هذا السؤال هي أنه، مادام الاعتماد على النفط بهذه النسبة العالية ومادام مستقبل أسعار النفط ومصيره ومستواه محكوم بعوامل سياسية واستراتجية واقتصادية هي بيد الدول العظمى وليست بأيدينا، فالخلل في بنية منابع الإيرادات الحكومية كبير. لماذا؟.
هذا سؤال يتعلق بماهية الإستراتيجية الاقتصادية السليمة، وحيث إن الموضوع يتعلق بالاستراتيجية، فإن الإجابة سوف تقتصر على العوامل الاستراتيجية التي يجب أن يبنى عليها الاقتصاد السعودي وهي في نظري مايلي :
أولاً: الحد من الإنفاق الحكومي الذي لا يصب بشكل مباشر في بناء الإنسان، أي في صحته وتعليمه وسكنه، وأن يكون هذا الإنفاق مبنياً على خطط وبرامج أخضعت للمعايير المهنية والاقتصادية.
ثانياً : الحد من الإنفاق الحكومي على المشاريع التي لا تحظى بجدوى اقتصادية استثمارية عالية والأمثلة هنا كثيرة.
ثالثاً : الحد من الهدر والفساد المالي الحكومي وإخضاع العابثين بالمال العام للمساءلة والحساب والعقاب بصرف النظر عن سلطتهم السياسية أو قدراتهم المالية.
• أن تفرض الضريبة على جميع الخاضعين لها دون استثناء لأي فرد أو شركة مهما كان الجاه السياسي أو الحجم المالي لهذا الفرد أو تلك الشركة.
سادساً : الاستثمار الاقتصادي في تطوير تقنية تحلية المياه، ومصادر الطاقة المتجددة والبحث العلمي والثروة السمكية.
سابعاً: الحد من معدل النمو السكاني المرتفع جداً، وذلك بالوسائل المختلفة ومنها التوعية بأهمية التنظيم الأسري، من حيث عدد الأطفال، وأثره الإيجابي على دخل الأسرة ورفاهيتها.
المستقبل المجهول يصنعه
حاضرٌ غير سويّ[6]
4/02/2013 م
المستقبلُ
يُولَد من بطن الحاضر؛ فالحاضر يصنعُ المستقبل. الحاضر غير السوي سياسياً واقتصادياً
واجتماعياً لابد أن يلد مستقبلاً مليئاً بالأمراض، متعدِّدَ المخاطر، مجهولَ
الهوية. اغضبوا أولا
تغضبوا؛ فهذه هي قراءتي لحاضرِنا.
قولوا ما شئتُم، قولوا متشائمٌ؛ نعم! فأنا متشائم، أنا لا أرى شمساً ولا قمراً
في سماء مستقبلِنا، وتسألونني مِن أين جاءتك هذه النبوءة عن مستقبلنا؟ فأقول لكم: حاضرنا هو الذي أنبأني بها، اسألوه إن
كنتم لا تصدِّقُون. آسفٌ آسف،
معذرة إخوتي، لقد نسيت! فنحن لا نعرف
ما المستقبل؟!. لقد سقط هذا
الزمن من مفرداتنا وأُلغِيَ من خارطة أفكارِنا، نحن سُكارى من خمر الحاضر،
وبطونُنا منتفخةٌ من موائدِه. موائدُ إن لم
تُستهلَكْ حالاً يُصبْها العفن، لا تعرف المستقبل، ولم تعد لكي تصل إليه. إنَّها موادُّ استهلاكيَّةٌ صُنعت خصيصاً
للحاضر، عمرُها الزمني لا يتعدَّى حدوده وينقضي بانقضائه. نحن لا نسأل عن المستقبل؛ لأنَّنَا
غارقون في وحل الحاضر، عقولنا بَطُل مفعولُها، وفقدت قدرتَها على التفكير خارجَ
حدود الحاضر وتضاريسِه.
نحن نعيش نعمة الحاضر الذي أوقف الزَّمنَ عند أقدامِه، وأوهمنا
بنعمتِه وكرمِه، وأفهمنا أنه هو المستقبل، وهو الأبد. يسقينا الحاضر في الليل وفي النهار من
خمرِ بتروله فنسكرُ ونمرحُ ونرقصُ ونغنِّي الأناشيدَ الوطنيَّةَ، ونرفع الصوت
عالياً: بلادنا أنت ما
مثلك بلد. وكلما استيقظ
أحدُنا وهمَّ بالسؤال هبَّ الحاضر وأترعنا بمزيدٍ من بتروله الأسود، الذي سرعانَ
ما يتحوَّلُ إلى دولارات ودنانير بفعل خلطة سعودية مسجَّل اختراعُها لنا؛ فهي من
ضمن خصوصيتنا، فتنتفخ جيوبُنا، وتُقفَل عقولُنا التي لا نشعر أننا بحاجة إليها،
فنحن سعداء بحالنا ومالنا، ونردد القول: الله لا يغيّر
علينا.
أنا واحد منكم،
مشارك في كل خطاياكم وذنوبكم، إلا أنَّ خمرَكم لم يُسكرْني ويرحْني مثل ما أراحكم
لأنعمَ مثلَكم بحياة التيه والنسيان واختصار الزمان في الحاضر من الأيام. ما أسعدَكم بعقولكم! وما أشقاني بعقلٍ رافضٍ مشاغبٍ كافرٍ
بالنعمة يرفض أن يريحني لأريحكم من تشاؤمي بمستقبلٍ ترونه بعيداً وأراه قريباً! سألت عقلي المتمرِّدَ عليَّ وعلى النوم
والراحة: ما الذي دعاك
وأوصلك إلى هذا الخوف الشديد من المستقبل؟ ألا ترى ما نحن فيه من رَغَدِ العَيش
وطيب المأكَل والمسكَن؟ صحيح أنَّ سيول البترول المتطايرة من أفواه آبار البترول
تسيلُ في بعض الوديان المرتفعة ولا تنحدر إلى الوديان المنخفضة، وهذا عكس قانون
الطبيعة، لكنَّنَا راضون مقتنعون، حتى وإن كان حالُنا مخالفاً لقوانين الطبيعة؛
فالقناعةُ كنزٌ لا يفنى. صحيحٌ أنَّه
رغدٌ لا ينعم به ويستفيد منه كل المواطنين بشيء من العدل والمساواة، لكن حتى أولئك
المحرومين راضون بحالِهم.
صحيحٌ أنَّنَا لم نسألْهم، لكنْ هناك عديدٌ من الصحف والبرامج
والمقالات والبيانات الرسمية وحتى الدولية التي تجيب عنهم، وتقول على لسانهم
وبلغتهم «إنَّنا بخير
وعافية.. راضون راضون». نحن أيها العقل الرافض الجاهل، أو
المتجاهل لخصوصيَّتنا، ليس للسؤال مكانٌ في لغتنا، ولا للاعتراضِ وجودٌ في حياتنا. نحن لم نتعوَّدْ على السؤال، أو قل إنَّه
ليسَ من خُصوصيَّتِنا السعوديَّة؛ فالإجابات – والحمد لله – جاهزةٌ بين أيدينا، وعلى ألسنتنا، لكي لا
نشقى بعناء البحث عن الإجابة، وهذه من بَرَكَات النِّفط، الإجاباتُ تسرَّبُ إلينا
وتُوضَعُ على ألسنتِنا، وتحتلُّ كلَّ مكان في عقولِنا قبلَ أن تصل إلينا رياح
الأسئلة؛ لذا فإنه عندما يصل السؤال إلى العقل لا يجد له مكاناً البتة؛ فالأجوبة
بكل ألوانها وأشكالها «شعراً ونثراً
فقهاً وحكمةً» احتلت المكانَ
كلَّ المكان، ولم يعد بالإمكان التفكير في المستقبل والقادم من الزمان.
أليست هذه هي
راحة البال أيها الشقي؟! نحن – أيها العقل الذي لا يشكر- تعلَّمنا أن يكون الحمدُ والشكرُ هو
جوابنا الدائم، حتى وإن كنَّا نشعر بعدم الرضا، نحن يا سيدي تركنا العمل والجد
والاجتهاد بعد أن فُتحت لنا خزائنُ الأرضِ بترولاً. دعْ عنك هذا المستقبل الذي أزعجتَنا به،
ودعنا نعش حاضرنا ونسعد به، يكفينا التفاؤل والآمال والأحلام، فمَا نيلُ المطالبِ
إلا بالتَّمنِّي، والدنيا لا تُدرَك غِلاباً، أيها الجاهل الشقي بعقله.
أعود مرة أخرى إلى سؤالي: ما الذي دعاك وأوصلك أيها العقل المشاغب
إلى حالة الإحباط هذه؟ انتفض العقل وقال: اسمع أيها
الغائب عن رؤية مستقبلك، أيها التائه في بلايين دولاراتك النفطية دعْني أمر مرور
الكرام على واقع حالك؛ لأريَك إن كنتَ ترى، وأُسمعَك إن كنتَ تسمع، وأبيِّنَ لك إن
كنتَ تعقل أنَّ حاضرك قائمٌ بنيانُه على ثروات زائلة متلاشية، وأنَّ مستقبلَك
سرابٌ تحسبه شيئاً فإن جئته فلن تجد فيه شيئاً.
دعْنِي إن سمحتَ لي ورغبتَ أن تُصغيَ لحديثي أن أمرَّ مرورَ
الكرام على ثلاث قواعد أساسيَّة في حياتك اليومية وواقعك المعاش وهي: واقعُك السياسي وواقعُك الاجتماعي
وواقعُك الاقتصادي. قلت: هات، فقال: حاول أن تفهمَ وتستوعبَ وتُدركَ ما أقول،
ولو أنني أعلمُ أنك لا تدرك جيداً العلاقة بين الحاضر والمستقبل؛ حيث المستقبل
يُولَد من رحم الحاضر، لكنني لم أفقد الأمل فيك علَّ وعسى في ذلك العقل خليَّةً
استعصت على النوم، وتعلقت بإرادة الحياة. قلت له: مشكورٌ على هذا الاستهزاء، لكنني سأصبر
وأستمع؛ علَّني أستفيدُ منك شيئاً، قال:
في الجانب السياسي:
إرادة الفعل
والنقض والتغيير والبناء والتطوير والتحديث هي إرادة الحكومة، أمَّا كلُّ إرادتكم
الجمعية ومعها عقولكم الذكية ومهاراتكم المهنية وأفكاركم الجهنمية والعادية فهي
خارج دائرة القرار الفاعل، وأرجو أن تركز معي، فأنا أقول «القرار الهام والفاعل والاستراتيجي»، وليس «القرار العادي الإداري» وما في حكمه. أنا أقول إنه لا يوجد في بنائكم السياسي
الحاضر قاعدة أساسية صالحة وقادرة على التطور والنضج تكون رافداً ومؤسساً لمستقبل
أفضل. قلت: لم أفهم، قال: سأوضِّحُ رغمَ أنني أخشى أنك لن تفهم!. قلت: كفى. قال: إنَّني أقول إنه ليس لديكم – كشعب – إطارٌ سياسيٌّ يمثلُكم ويعبِّرُ عن
آرائكم ورغباتكم وخوفكم وآمالكم ومستقبلكم، إطار يكون عوناً لمن تشرَّف بحكمكم
ونال ثقتكم وأصبح وليَّ الأمر عليكم. قلت: أيها العقل، أنت لست فقط جاهلاً بحالِنا
وما نحن فيه من سعادة نُحسَدُ عليها؛ ولكنك لا تقرأ ولا تتابع الأخبار والتطورات. ألم تعلم أن لدينا مجلساً للشورى ضُمَّ
إليه مؤخراً ثلاثون امرأة، فأصبحنا أكثر تحرراً وتقدماً من كثير من الدول بما فيها
بعض الدول المتقدمة؟ قال: على رِسْلِك، «ألم أقلْ لكَ إنَّكَ لن تستطيعَ مَعِيَ
صَبْراً». أرجوك، لا
تحدثْني عن مجلس الشورى، قديمه أو حديثه؛ فهذا لم أعنِ. مجلس الشورى، يا أخي، أياً كان مَن فيه
لم يوجد ليمثل إرادة الشعب، وإنما وُجد ليمثل إرادة الدولة، أفهمت أيها الذكي؟ أنا
أقول إنه ليس لديكم مجلس ممثِّلٌ للأمة بجميع شرائحها وطوائفها ومناطقها ومذاهبها
ورجالها ونسائها، منتخَب من الشعب انتخاباً حراً نزيهاً. فالمجلس المنتخب هو القاعدة الأساسية
لبناء نظام سياسي يعبِّرُ عن آمال الأمة وآلامها، نظامٌ يشارك فيه الشعب بفعالية
وجدية مع القيادة الحاكمة في بناء حاضر على أسس صالحة وقوية تؤسِّسُ لمستقبل أفضل
وأقوى. الموضوع في هذا
الجانب يطول لكنني أكتفي بهذا القدر منه.
في الجانب الاجتماعي:
أما في الجانب
الاجتماعي، فقد غيرت الثروة البترولية كثيراً من خصالكم الاجتماعية الجيِّدة
الأصيلة واستبدلتموها بخصال «بترولية» طغى فيها الاستهلاكُ على الإنتاج،
والكسلُ على العمل، والفسادُ على الأمانة، والمخدراتُ على الوعي الصحي والفكري،
جعلتم الركضَ وراء النساء إمَّا لاستعبادِهنَّ أو إخفائِهنَّ عنواناً لإصلاحكم
الاجتماعي، وأصبح جمعُ المال بغير وجه حقٍّ ظلماً كان أو فساداً شائعاً في دياركم. لم يعد للمال العام حرمته، شبّكتم
الصحاري والقفار بعد المدن والشواطئ. تفرقتم شِيَعاً
وقبائل وطوائف ومذاهب. نظامُكم
التعليمي يتعثر، يتقدم العالم وهو يتأخر، فكان مِن ويلاته البطالة والجهل المستتر،
المشكلة أنَّ وزراء العمل عندكم ليست لديهم الشجاعة ليعترفوا أنَّ كثرة المكوِّن
الأدبي والفقهي على حساب قلة وضعف المكوِّن العلمي والتكنولوجي في مناهجكم
التعليمية هي من أهم أسباب البطالة الصريحة والمقنعة عندكم.
في الجانب الاقتصادي:
وهنا حدِّثْ
ولا حرج. دعني أؤكدْ في
البداية أنَّ الاقتصاد يقعُ محلَّ القلب في جسم الإنسان، إن خرب خرب الجسدُ كلُّه،
وتوقف الدم النقي عن الانسياب في شرايينه، والوصول إلى كل أطرافه، فتموت أو يصيبها
الشلل. قلت: هذا صحيح، ولكن المهم في الأمر الآن هو: هل اقتصادنا – أعني قلبَنا على حد تعبيرك – سليمٌ قويٌّ يهيئ لنا وسائل العيش الكريم
حاضراً ومستقبل، خصوصاً ونحن شعب يزدادُ كلَّ دقيقةٍ؛ فمعدلات النمو السكاني لدينا
من أكبر المعدلات في العالم؟ قال: كم أنا سعيد
بهذا السؤال يبدو أنك بدأت تفهم خطورة واقعك. لا، لا أريد أن أكون متفائلاً أكثر من
اللازم، أقصد أنك بدأت تطرح السؤال الصحيح، وهذا في حد ذاته مهمٌّ جداً، وأجدادكم
يقولون: مَن سأل ما ضاع.
يا سيدي قلبكم
ينبُضُ في كل يوم حوالي عشرة ملايين برميل من البترول، تغمر أجزاءً من أرضكم حتى
الغرق، وتمطر فوق أجزاء، وتمرُّ مرَّ السحاب فوق أخرى. فلنترك موضوع التوزيع العادل للثروة
جانباً فقد يكون هذا صعباً عليك فهمُه، فالمهم الآن هو أن هذه الثروة البترولية
والأموال الناجمة عن استنزافها هي التي تمول أكثر من 90٪ مِن نفقات ميزانيتكم الحكومية التي
منها التعليم والصحة والطرق والدفاع والأمن ورواتب الموظفين والمشاريع والمياه
والكهرباء والصناعة والزراعة والمواصلات والموانئ وأمورٌ أخرى مستترة.
هذه الثروة يا أخي الغافل ناضبةٌ منتهية، إن آجلاً أو عاجلاً. كم أنا عاجز عن فهم صمتكم وسكونكم
وسكوتكم، لم تقلقكم وتقض مضاجعكم هذه الحقيقة الجيولوجية الاقتصادية، وظللتم في
غيِّكم واستهلاكِكُم المتسارع لثروتكم الوطنية سائرين، وعن بناء رأسمال وطني بديل
نائمين. فهل تعلمون أو
تفكرون أو تتخيلون كيف يكون حالكم وحال أجيالكم عندما يقف قلبكم البترولي عن ضخ دم
يكفيكم ويسد حاجتكم؟ سيكون الأمر صعباً صعباً. قلت لهذا العقل الثرثار (الملقوف): مالنا ومال الأجيال القادمة؟! اللي رزقنا يرزقهم.
نظر العقل إليَّ باشمئزاز وقال: (أولاً) هذه الثروة ليست لكم وحدَكم لكي تبددوها وتستهلكوها. هي لكم ولأجيالكم القادمة، كلٌّ يأخذ
بقدر حاجته وقدرته على استثمار عوائدها لإنتاج أصول رأسمالية منتجة. (ثانياً) الأجيال هي طفلك الذي وُلد بالأمس وطفل
ابنك وابنتك القادم. أفق من هذه
الأنانية وهدر أموال الشعب السعودي من جيلكم والأجيال القادمة. أنتم الآن يا سيدي أمام فرصة ذهبية أضعتم
جزءاً منها، وإن لم تصلحوا حالَكم فيما بقي من الزمن؛ فإنَّكم لا محالة إلى الفقر
ذاهبون، وإلى الهاوية بأقدامكم سائرون. أبدلوا
أقدامَكم بعقولكم تسيروا في الاتجاه الصحيح ويصلح حالكم.
قولوا ما شئتُم، قولوا متشائمٌ؛ نعم! فأنا متشائم، أنا لا أرى شمساً ولا قمراً في سماء مستقبلِنا، وتسألونني مِن أين جاءتك هذه النبوءة عن مستقبلنا؟ فأقول لكم: حاضرنا هو الذي أنبأني بها، اسألوه إن كنتم لا تصدِّقُون. آسفٌ آسف، معذرة إخوتي، لقد نسيت! فنحن لا نعرف ما المستقبل؟!. لقد سقط هذا الزمن من مفرداتنا وأُلغِيَ من خارطة أفكارِنا، نحن سُكارى من خمر الحاضر، وبطونُنا منتفخةٌ من موائدِه. موائدُ إن لم تُستهلَكْ حالاً يُصبْها العفن، لا تعرف المستقبل، ولم تعد لكي تصل إليه. إنَّها موادُّ استهلاكيَّةٌ صُنعت خصيصاً للحاضر، عمرُها الزمني لا يتعدَّى حدوده وينقضي بانقضائه. نحن لا نسأل عن المستقبل؛ لأنَّنَا غارقون في وحل الحاضر، عقولنا بَطُل مفعولُها، وفقدت قدرتَها على التفكير خارجَ حدود الحاضر وتضاريسِه.
نحن نعيش نعمة الحاضر الذي أوقف الزَّمنَ عند أقدامِه، وأوهمنا بنعمتِه وكرمِه، وأفهمنا أنه هو المستقبل، وهو الأبد. يسقينا الحاضر في الليل وفي النهار من خمرِ بتروله فنسكرُ ونمرحُ ونرقصُ ونغنِّي الأناشيدَ الوطنيَّةَ، ونرفع الصوت عالياً: بلادنا أنت ما مثلك بلد. وكلما استيقظ أحدُنا وهمَّ بالسؤال هبَّ الحاضر وأترعنا بمزيدٍ من بتروله الأسود، الذي سرعانَ ما يتحوَّلُ إلى دولارات ودنانير بفعل خلطة سعودية مسجَّل اختراعُها لنا؛ فهي من ضمن خصوصيتنا، فتنتفخ جيوبُنا، وتُقفَل عقولُنا التي لا نشعر أننا بحاجة إليها، فنحن سعداء بحالنا ومالنا، ونردد القول: الله لا يغيّر علينا.
صحيحٌ أنَّنَا لم نسألْهم، لكنْ هناك عديدٌ من الصحف والبرامج والمقالات والبيانات الرسمية وحتى الدولية التي تجيب عنهم، وتقول على لسانهم وبلغتهم «إنَّنا بخير وعافية.. راضون راضون». نحن أيها العقل الرافض الجاهل، أو المتجاهل لخصوصيَّتنا، ليس للسؤال مكانٌ في لغتنا، ولا للاعتراضِ وجودٌ في حياتنا. نحن لم نتعوَّدْ على السؤال، أو قل إنَّه ليسَ من خُصوصيَّتِنا السعوديَّة؛ فالإجابات – والحمد لله – جاهزةٌ بين أيدينا، وعلى ألسنتنا، لكي لا نشقى بعناء البحث عن الإجابة، وهذه من بَرَكَات النِّفط، الإجاباتُ تسرَّبُ إلينا وتُوضَعُ على ألسنتِنا، وتحتلُّ كلَّ مكان في عقولِنا قبلَ أن تصل إلينا رياح الأسئلة؛ لذا فإنه عندما يصل السؤال إلى العقل لا يجد له مكاناً البتة؛ فالأجوبة بكل ألوانها وأشكالها «شعراً ونثراً فقهاً وحكمةً» احتلت المكانَ كلَّ المكان، ولم يعد بالإمكان التفكير في المستقبل والقادم من الزمان.
أعود مرة أخرى إلى سؤالي: ما الذي دعاك وأوصلك أيها العقل المشاغب إلى حالة الإحباط هذه؟ انتفض العقل وقال: اسمع أيها الغائب عن رؤية مستقبلك، أيها التائه في بلايين دولاراتك النفطية دعْني أمر مرور الكرام على واقع حالك؛ لأريَك إن كنتَ ترى، وأُسمعَك إن كنتَ تسمع، وأبيِّنَ لك إن كنتَ تعقل أنَّ حاضرك قائمٌ بنيانُه على ثروات زائلة متلاشية، وأنَّ مستقبلَك سرابٌ تحسبه شيئاً فإن جئته فلن تجد فيه شيئاً.
دعْنِي إن سمحتَ لي ورغبتَ أن تُصغيَ لحديثي أن أمرَّ مرورَ الكرام على ثلاث قواعد أساسيَّة في حياتك اليومية وواقعك المعاش وهي: واقعُك السياسي وواقعُك الاجتماعي وواقعُك الاقتصادي. قلت: هات، فقال: حاول أن تفهمَ وتستوعبَ وتُدركَ ما أقول، ولو أنني أعلمُ أنك لا تدرك جيداً العلاقة بين الحاضر والمستقبل؛ حيث المستقبل يُولَد من رحم الحاضر، لكنني لم أفقد الأمل فيك علَّ وعسى في ذلك العقل خليَّةً استعصت على النوم، وتعلقت بإرادة الحياة. قلت له: مشكورٌ على هذا الاستهزاء، لكنني سأصبر وأستمع؛ علَّني أستفيدُ منك شيئاً، قال:
هذه الثروة يا أخي الغافل ناضبةٌ منتهية، إن آجلاً أو عاجلاً. كم أنا عاجز عن فهم صمتكم وسكونكم وسكوتكم، لم تقلقكم وتقض مضاجعكم هذه الحقيقة الجيولوجية الاقتصادية، وظللتم في غيِّكم واستهلاكِكُم المتسارع لثروتكم الوطنية سائرين، وعن بناء رأسمال وطني بديل نائمين. فهل تعلمون أو تفكرون أو تتخيلون كيف يكون حالكم وحال أجيالكم عندما يقف قلبكم البترولي عن ضخ دم يكفيكم ويسد حاجتكم؟ سيكون الأمر صعباً صعباً. قلت لهذا العقل الثرثار (الملقوف): مالنا ومال الأجيال القادمة؟! اللي رزقنا يرزقهم.
نظر العقل إليَّ باشمئزاز وقال: (أولاً) هذه الثروة ليست لكم وحدَكم لكي تبددوها وتستهلكوها. هي لكم ولأجيالكم القادمة، كلٌّ يأخذ بقدر حاجته وقدرته على استثمار عوائدها لإنتاج أصول رأسمالية منتجة. (ثانياً) الأجيال هي طفلك الذي وُلد بالأمس وطفل ابنك وابنتك القادم. أفق من هذه الأنانية وهدر أموال الشعب السعودي من جيلكم والأجيال القادمة. أنتم الآن يا سيدي أمام فرصة ذهبية أضعتم جزءاً منها، وإن لم تصلحوا حالَكم فيما بقي من الزمن؛ فإنَّكم لا محالة إلى الفقر ذاهبون، وإلى الهاوية بأقدامكم سائرون. أبدلوا أقدامَكم بعقولكم تسيروا في الاتجاه الصحيح ويصلح حالكم.
لكي لا نقع في الهاوية[7]
10/3/2014 م
يرى المسؤولون
في المملكة العربية السعودية أننا نعيش عصراً اقتصادياً ذهبياً، عصراً يحسدنا عليه
كثير من شعوب العالم. هذه الرؤية
العظيمة لواقعنا الاقتصادي عندما أخضعها لقانون وقواعد الاستدامة، تسقط كل
مقوماتها وتفقد كل بريقها وتتحول إلى غطاء من الصفيح المطلي بماء ذهب من عيار
منخفض جداً.
واقعنا يقول:
– إنتاجنا الفردي والحكومي
ضعيف جداً.
– إنفاقنا الاستهلاكي كبير
جداً.
– أعدادنا تتزايد بنسب فوق
العالية.
– مياهنا شحيحة وضئيلة جداً.
– نزيف مستمر للثروة
البترولية لإشباع حاجة الغرب الإنتاجية وإشباع حاجاتنا الاستهلاكية، بترول وغاز
مشكوك في مصيره الجيولوجي وأثمانه المالية المستقبلية.
– الفساد الإداري والمالي
جيد جداً!
– الشفافية والمساءلة ضعيفة
جداً.
– العمالة الأجنبية كثيرة
جداً تخدمنا وتنتج عنا.
– نظام تعليم يترنح، وعقول
أجيال تُهدر، ونظام سعودة يواصل هدر عقول الأجيال ويكمل من ضياع العمر ما
أضاعه نظام
التعليم.
هاجس المستقبل
مقلق وملّح، أراه مكتوباً على جبين كل طفل يولد وأنا أكتب عن المستقبل، أسمعها
استغاثة في صرخة كل طفل في مهده، الخوف من المستقبل يطبق على صدري ويشغل كل مساحة
في عقلي. يزعجني ضجيج
الإنفاق الحكومي المتطاير يميناً وشمالاً، وضجيج الاستهلاك الحكومي والفردي الممتد
على بساط البذخ. ضجيج البواخر
العملاقة على شواطئ بلادي الشرقية تملأ صهاريجها من تلك الأنابيب الممتدة إلى
أعماق حقولنا البترولية، تمتص بترولنا وتلقي به في الأسواق العالمية، وتعود إلينا
ببلايين الدولارات ننفقها من ميزانية نجهل كثيراً من تفاصيلها، كثير منها
للاستهلاك والنزر القليل منها للاستثمار المنتج.
عندما أنظر إلى حجم الواردات من سلع وخدمات (2013 م) أجدها قد بلغت 574.1 بليون ريال سعودي، ثم أنظر إلى الأعداد
البشرية التي تولد كل يوم مضيفة أعداداً جديدة إلى الأعداد الكبيرة من الأطفال
والشباب الذين تربو نسبتهم على 50% من إجمالي
السكان في المملكة، ومع تزايد أعداد الأطفال والشباب تتزايد الحاجة المستقبلية
للإنفاق على التعليم والسكن والصحة والخدمات الأخرى.
أنظر إلى
المستقبل وإمكانات الاستمرار في الإنفاق والاستهلاك فأجد أن مستقبل البترول مصدر
رزقنا الوحيد لا يبعث على الطمأنينة، فحول هذا المستقبل تدور شكوك جيولوجية
واقتصادية وسياسية تدعمها بحوث ودراسات لها رصانتها البحثية والأكاديمية.
في هذا الجو
الفكري المشحون بالمتناقضات أتساءل: مَن سيوفر
لأجيال المستقبل أضعاف هذه البلايين من العملات الصعبة لتأمين الواردات من السلع
والخدمات إن ظللنا سائرين على طريق كثرة الاستهلاك وقلة الإنتاج وعصفت الرياح
السياسية والاقتصادية بسوق البترول المستقبلية وعوائده المالية؟ حالنا ستكون صعبة
جداً، أفواه جائعة متنامية وأموال متدنية متناقصة.
لا أرى ولا
أسمع إلا ضجيج الحاضر بكل مكوناته البشرية والآلية، قهقهات، وإسراف، وبذخ وكسل
وقليل من الإنتاج مع كثير من الاستهلاك. ضاع المستقبل
أو فُقِد في لجة الحاضر وضجيجه، وكأننا في السعودية حكومة وشعباً ألغينا المستقبل
من قاموس الزمن؛ فليس له مكان في فكرنا أو تصرفنا. كل شيء بالنسبة لنا هو الحاضر، هو
الميزانية، هو الإنفاق، هو المنح والهبات الحكومية، هو القروض الميسرة والأراضي
الموزعة، ورغد العيش. والأسوأ من ذلك
أن هذا الحاضر بكل عيوبه الاقتصادية لا تشمل نعمه كل المواطنين في إطار العدالة
الاجتماعية، بل إن النعيم قسمة يتدرج حجمها بالتناقص من أعلى الهرم إلى أسفله حتى
لا يصل إلى قاعدة الهرم إلا الفتات. مشكلة السواد
الأعظم من الطبقة الفقيرة أن نصيبها من الحاضر الموسوم بالرفاهية المادية قليل
جداً ومن المستقبل المشكوك في رفاهيته كبير جداً.يقول البعض: ما بالك لا ترى هذه المشاريع العملاقة،
وهذه القطارات السريعة، وهذه المدن الاقتصادية العظيمة، وهذه المصانع والمتاجر
الرائعة، وهذه الشركات الكبيرة، وهذه البنوك الضخمة، وهذه الصناديق الحكومية
المتعددة للإقراض، وهذه مشاريع الإسكان المنتشرة في كل مكان، وها هي مشاريع
التوسعة للحرمين الشريفين تتوسع باستمرار دون توقف.أقول نعم كل هذا يحدث على أرض الواقع وفي
الزمن الحاضر، لكنني أتحفظ على جودة القرار، وجودة الإنفاق، وجودة الأداء، والأهم
من ذلك وهنا مربط الفرس، أقول إن هذا الواقع الحاضر بكل ضجيجه ودخانه وبخاره
وغباره لا يشكل في نظري قاعدة إنتاجية صلبة بشرية ومادية، قادرة على تحمل الهزات
الأرضية العنيفة التي قد يحملها المستقبل البترولي المجهول، أو قل المشكوك في
أمره، أو قل غير المؤكد استمراره على حاله.
المستقبل هو
امتداد للحاضر، والحاضر في جانبه الإنتاجي الفردي وفي جانبه الإنتاجي الحكومي سيئ
وضعيف جداً، يصعب أن نبني عليه قاعدة إنتاجية تستبدل كلياً أو بشكل كبير الدخل
البترولي المشكوك في مستقبله وتؤمن للأجيال القادمة حياة اقتصادية، تنتج دخلاً
يلبي حاجاتها الاستهلاكية والاستثمارية والدفاعية والأمنية والتعليمية والإسكانية
والصحية. اقتصاد منتج
مستدام متنامٍ يحقق للفرد رفاهية العيش الكريم، وللوطن حريته وكرامته.
يحلو لكثير من كبار المسؤولين، ومن بينهم الوزراء ورجال
الإعلام الحكومي ومن تنازلوا عن ضمائرهم وعن سيادة كلمة الحق على المصالح الذاتية
من رجال القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، وبما في ذلك بعض المؤسسات المالية
الدولية، أن يرسموا لمستقبل هذه الأمة صورة اقتصادية زاهرة، ويعرضوها في كل فعالية
وفرصة أمام المسؤول الأول عن مستقبل الأمة، بينما الواقع كما أراه ويراه غيري،
يرسم مستقبلاً تحيط به المخاطر من كل جانب، وقد يؤدي بنا إلى هاوية سحيقة في نهاية
المطاف إن نحن ظللنا على نفس الدرب سائرين.
أنا لا ألوم العامة إن هي انشغلت بقوت يومها لكنني لا أفهم كيف
لا يرى المسؤول الحاجة الملحة إلى مراجعة الاستراتيجيات والخطط الاقتصادية
والبترولية والمالية الراهنة؛ درءاً ومنعاً لأي احتمال أن نكون في غير الاتجاه
الصحيح سائرين. الاقتصاد
الوطني قائم مثل الخيمة العربية على عمود واحد هو البترول، الذي إن انحنى أو انكسر
سقطت الخيمة على رؤوس من فيها كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.
أنا لا أدعي أن ما سبق أن قلته ورددته وأعيد قوله اليوم في هذا
المقال هو الحقيقة المطلقة لكنني أؤكد أن استقراء المستقبل بعين المختص من خلال
البيانات الإحصائية والظواهر الاقتصادية التي أوصلتني وأوصلت غيري إلى مثل هذه
الرؤية المستقبلية المظلمة للاقتصاد السعودي، لابد أن تثير تساؤلات لدى صاحب
القرار ليطلب من وزرائه الذين أوكل إليهم إدارة الشأن الاقتصادي والبترولي والمالي
مراجعة فرضياتهم وخططهم، والإجابة على النقد والتساؤلات والشكوك حول منهجنا
الاقتصادي واستراتيجيتنا الاقتصادية.
إن العلاج الناجع والطريق السليم، يبدأ أولاً وقبل كل شيء
ببناء الإنسان المواطن وتحريره من ظلمات الجهل والتخلف والفقر، ولن يكون ذلك إلا
بتغيير جذري منهجي علمي فاعل لمنظومة التعليم بكل مراحلها وأطوارها ومؤسساتها
وعناصرها وهذا يتطلب كسر الحواجز وفك الأغلال التي أبقت على نظام التعليم ومناهجه
ومدرسيه وإدارته ومبانيه وطلابه مربوطين في درجات السلم الأول، بينما يتسابق
العالم صعوداً إلى أعلى.
عقل الإنسان السعودي يجب أن يبنى على أسس تحتل فيها منظومة
العلوم الرياضية والتكنولوجية والكيميائية بكل فروعها المكان الأكبر والأعلى
والأهم في جغرافية العقل السعودي وتضاريسه. ومن العقل
المبني بناء علميا يولد الإبداع والإنتاج ويتبعه السلوك الإيجابي الفردي والجمعي.
مع بناء الإنسان وبالتوازي، تبنى قواعد اقتصادية إنتاجية
قيمتها المضافة أكبر من تكاليفها، ويصبح في نهاية الطريق لدينا اقتصاد أداؤه وحجمه
ونموه قائم على شعب منتج مبدع يأكل من إنتاجه وتصديره للسلع والخدمات، وليس من
استخراج بتروله من باطن الأرض يبيعه ويأكل من ريعه. وعندما ينتهي بتروله أو تجف آباره، يعود
أدراجه إلى الفقر والحاجة بعد أن يتآكل عمود خيمته وتهتز أركانها وتسقط على رأسه،
وعندها تكون الفرصة قد ضاعت والأموال قد قلت والمياه قد جفت والأعداد قد وصلت إلى
الخمسين مليوناً أو أكثر.
لذا أقول وأكرر القول إن منظومة الإصلاح على كل الأصعدة وفي كل
المجالات يجب أن تبدأ الآن ودونما أي تأخير أو تردد، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية
فاعلة ترى بكل وضوح أخطار المستقبل وضرورة تفاديها.
واقعنا يقول:
عندما أنظر إلى حجم الواردات من سلع وخدمات (2013 م) أجدها قد بلغت 574.1 بليون ريال سعودي، ثم أنظر إلى الأعداد البشرية التي تولد كل يوم مضيفة أعداداً جديدة إلى الأعداد الكبيرة من الأطفال والشباب الذين تربو نسبتهم على 50% من إجمالي السكان في المملكة، ومع تزايد أعداد الأطفال والشباب تتزايد الحاجة المستقبلية للإنفاق على التعليم والسكن والصحة والخدمات الأخرى.
يحلو لكثير من كبار المسؤولين، ومن بينهم الوزراء ورجال الإعلام الحكومي ومن تنازلوا عن ضمائرهم وعن سيادة كلمة الحق على المصالح الذاتية من رجال القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، وبما في ذلك بعض المؤسسات المالية الدولية، أن يرسموا لمستقبل هذه الأمة صورة اقتصادية زاهرة، ويعرضوها في كل فعالية وفرصة أمام المسؤول الأول عن مستقبل الأمة، بينما الواقع كما أراه ويراه غيري، يرسم مستقبلاً تحيط به المخاطر من كل جانب، وقد يؤدي بنا إلى هاوية سحيقة في نهاية المطاف إن نحن ظللنا على نفس الدرب سائرين.
أنا لا ألوم العامة إن هي انشغلت بقوت يومها لكنني لا أفهم كيف لا يرى المسؤول الحاجة الملحة إلى مراجعة الاستراتيجيات والخطط الاقتصادية والبترولية والمالية الراهنة؛ درءاً ومنعاً لأي احتمال أن نكون في غير الاتجاه الصحيح سائرين. الاقتصاد الوطني قائم مثل الخيمة العربية على عمود واحد هو البترول، الذي إن انحنى أو انكسر سقطت الخيمة على رؤوس من فيها كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.
أنا لا أدعي أن ما سبق أن قلته ورددته وأعيد قوله اليوم في هذا المقال هو الحقيقة المطلقة لكنني أؤكد أن استقراء المستقبل بعين المختص من خلال البيانات الإحصائية والظواهر الاقتصادية التي أوصلتني وأوصلت غيري إلى مثل هذه الرؤية المستقبلية المظلمة للاقتصاد السعودي، لابد أن تثير تساؤلات لدى صاحب القرار ليطلب من وزرائه الذين أوكل إليهم إدارة الشأن الاقتصادي والبترولي والمالي مراجعة فرضياتهم وخططهم، والإجابة على النقد والتساؤلات والشكوك حول منهجنا الاقتصادي واستراتيجيتنا الاقتصادية.
إن العلاج الناجع والطريق السليم، يبدأ أولاً وقبل كل شيء ببناء الإنسان المواطن وتحريره من ظلمات الجهل والتخلف والفقر، ولن يكون ذلك إلا بتغيير جذري منهجي علمي فاعل لمنظومة التعليم بكل مراحلها وأطوارها ومؤسساتها وعناصرها وهذا يتطلب كسر الحواجز وفك الأغلال التي أبقت على نظام التعليم ومناهجه ومدرسيه وإدارته ومبانيه وطلابه مربوطين في درجات السلم الأول، بينما يتسابق العالم صعوداً إلى أعلى.
عقل الإنسان السعودي يجب أن يبنى على أسس تحتل فيها منظومة العلوم الرياضية والتكنولوجية والكيميائية بكل فروعها المكان الأكبر والأعلى والأهم في جغرافية العقل السعودي وتضاريسه. ومن العقل المبني بناء علميا يولد الإبداع والإنتاج ويتبعه السلوك الإيجابي الفردي والجمعي.
مع بناء الإنسان وبالتوازي، تبنى قواعد اقتصادية إنتاجية قيمتها المضافة أكبر من تكاليفها، ويصبح في نهاية الطريق لدينا اقتصاد أداؤه وحجمه ونموه قائم على شعب منتج مبدع يأكل من إنتاجه وتصديره للسلع والخدمات، وليس من استخراج بتروله من باطن الأرض يبيعه ويأكل من ريعه. وعندما ينتهي بتروله أو تجف آباره، يعود أدراجه إلى الفقر والحاجة بعد أن يتآكل عمود خيمته وتهتز أركانها وتسقط على رأسه، وعندها تكون الفرصة قد ضاعت والأموال قد قلت والمياه قد جفت والأعداد قد وصلت إلى الخمسين مليوناً أو أكثر.
لذا أقول وأكرر القول إن منظومة الإصلاح على كل الأصعدة وفي كل المجالات يجب أن تبدأ الآن ودونما أي تأخير أو تردد، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية فاعلة ترى بكل وضوح أخطار المستقبل وضرورة تفاديها.
هل السقوط في الهاوية أمر
محتوم ؟![8]
17/3/2014م
قبل البدء، أود
أن أنوه عن التفاعل الكبير مع المقال السابق «لكي لا نقع في الهاوية» من خلال وسائل التواصل
الاجتماعي أو التعليق المباشر في صفحة المقال. وقد أوضح حجم التفاعل وامتداده جغرافياً،
أن قضية المستقبل هاجس محسوس وملموس بين أفراد المجتمع إذا جاز لنا اعتبار تلك
العينة ممثلة للمجتمع. التفاعل كان
إيجابياً بشكل كبير، والجميل في وسائل التواصل الاجتماعي أنها مفتوحة للجميع بكل
شفافية وحرية. وأرجو أن تصاب
صحافتنا الوطنية بهذه العدوى المباركة.
هذا من حيث
الجمهور، أما من جانب المسؤولين المعنيِّين بالموضوع فلسان حالهم يقول: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لكن علينا ألا نستعجل الأمر، فقد يكون
هناك من القضايا ما هو أهم من السقوط في الهاوية لا قدَّر الله، أو أن الأمر يحتاج
إلى دراسة وتحليل قبل أن يكون لهم ردٌّ أو تساؤل.
أنا وغيري ممن ينشدون الإصلاح، ليس من واجبنا أن ننتزع السؤال
أو الإجابة أو الإيضاح من فم المسؤول، لكن واجبنا الوطني يحتِّم علينا قول ما
نعتقد أنه كلمة حق ونُلحُّ في طلب الإجابة فهذا حق لكل مواطن، فإن أصبنا فلنا
الأجر وإن أخطأنا فلنا أجران.
أعود بعد هذه
المقدمة إلى سؤال العنوان «هل السقوط في
الهاوية أمر محتوم؟»، والإجابة
بشكل مباشر «هي بالنفي ولكن». هي بالنفي إن عدَّلنا الاتجاه وغيَّرنا
المسار وقمنا بالإصلاح المطلوب لتفادي الوقوع في الهاوية الاقتصادية، ولكن إن
ظللنا على نفس الطريق سائرين فالإجابة بنعم.
ويبقى السؤال: ما هو الإصلاح
المطلوب؟
وهنا أقول إن
كل شيء في هذه الدنيا يبدأ بالإنسان وينتهي إلى الإنسان. في علم الاقتصاد نقول: إن الإنسان هو هدف التنمية وهو وسيلتها،
من هو الإنسان المعني في هذا المقال والمقام؟
الإنسان هو
المواطن الذي يشكِّل تاريخ هذا الوطن ودينه ولغته وهويته، ويشكل مستقبل هذا الوطن
ومصيره وحلمه واهتمامه ومسؤوليته. هذا هو
المواطن، هو الرجل وهو المرأة، هذا المواطن هو الشرقي والغربي والشمالي والجنوبي،
هذا المواطن هو كل الأطياف والأعراق من البشر التي جعلت من أرض هذا الوطن وطناً
لها، ومن تاريخ هذا الوطن تاريخاً لها، ومن لغة هذا الوطن ودينه هوية لها.هذا هو المواطن الذي يجب
أن يكون العمود الفقري والمكون الرئيس والأساسي في منظومة الإصلاح والتنمية، في
الاستراتيجيات وفي الخطط لبناء مستقبل الأمة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إذا كان هذا
الثقل والوزن للإنسان المواطن في معادلة الإصلاح والتنمية المستدامة، فما هي أهم
القواعد التي يجب بناؤها في هذا الإنسان المواطن الذي يُبنَى على أكتافه وبجهده
حاضر الأمة ومستقبلها؟
ثلاث قواعد أساسية وجوهرية، إن بُني على أساسها وبموجبها
المواطن صلح جسد الأمة كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي:
أولاً: صحة العقل الإنسان يولد بعقل جاهز
لاستقبال التكوين المعرفي ومباشرة دوره في توجيه الإنسان وإدارة أفعاله وأقواله. يكتسب العقل نضجه وجاهزيته من كل ما يحيط
به منذ ولادة الإنسان، وفي بعض الأقوال: وهو في بطن
أمه، ومن أهم تلك المدخلات التي تبني عقل الإنسان وقدراته «التعليم» الذي يبدأ منذ الصغر وكما قيل «العلم في الصغر كالنقش في الحجر».
في بداية القرن
العشرين في المملكة خصوصاً في القرى كان من يعرف القراءة والكتابة يشار إليه
بالبنان، وكان العلم يؤخذ على يد رجال الدين في المساجد أو الكتاتيب. تغيرت العلوم والمعارف فتغير بذلك
الإنسان وتغير الزمن وتغير العالم من حولنا. العلوم
والمعارف القديمة بنظرياتها ومقدماتها ونتائجها أُخضعت من قبل العقل البشري العالم
للمراجعة والتفكيك والتحليل والنقد والتطوير، نحا العقل البشري نحو العلوم
التطبيقية الرياضية والهندسية والفيزيائية والكيميائية والذرية.. إلخ.. فتوالت الاختراعات وقامت الصناعات وظهرت
المنتجات والخدمات التي غيرت الإنسان والحياة البشرية، وبناءً عليه تغيرت المناهج
الدراسية في العالم المتقدم اليوم صناعياً وتقنياً في كل المراحل التعليمية خصوصاً
الابتدائية، لأنها الأساس في المنظومة التعليمية والتربوية، وأصبحت المعرفة
بمحتواها العلمي وليس الأدبي والفقهي كما كان سابقاً، لها السيادة والريادة في
تكوين العقل العلمي المنتج المبدع المخترع. أما المناهج
التي ينهل منها أبناؤنا وبناتنا اليوم في جميع مراحلهم التعليمية من الابتدائية
حتى الجامعية، فهي في الزمن الماضي تزحف خطوات إلى الأمام بينما العالم يسير بسرعة
الضوء محاولاً كشف أسرار الأجرام السماوية بعد أن أصبحت الأرض لا تُشبع نهمه
العلمي وتعطُّشه للاكتشاف والمعرفة. إن نظامنا التعليمي
بلا شك يحتاج إلى إصلاح جذري وتغيير منهجي يصل إلى عمق المشكلة المرتبطة بالمنهج
الفقير في محتواه العلمي والفلسفي والمتخم في محتواه الأدبي والفقهي. المحتوى الأدبي والتراثي في مناهجنا
الدراسية اليوم يحتاج إلى تحديث وتطوير، والمحتوى الفقهي يحتاج إلى أن ترفع عنه
عقلية التحريم القائمة على باب سد الذرائع ليحل محلها فقه التيسير الذي يقوم على
قاعدة فقهية هي في نظري أكثر ملاءمة لحال الإسلام والمسلمين في هذا العصر، هذه
القاعدة تقول إن الأصل في الأشياء أنها حلال إلا ما جاء نص صريح في القرآن الكريم
بتحريمه أو ورد بذلك حديث صحيح عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وبما أن الأمر لا يتعلق بمخالفة نص قرآني
أو حديث نبوي صحيح، وإنما بفقه لرجال أجلَّاء عِظام يؤخذ منهم ويرد عليهم، فالأمة
في حِلٍّ من أمرها في الأخذ من الفقه الإسلامي ما يحمي المصلحة العليا للأمة
الإسلامية ويدفع بها إلى الرقي والتقدم الحضاري والاقتصادي. هذا ما تعلمته طالباً في مدرسة «دار الحديث» في المدينة المنورة، وفقهته على يد فقهاء
أجلَّاء في مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لذا فإنني أقول إن مناهجنا الدراسية يجب أن يكون ضمن محتواها
وتكوينها فقه إسلامي معاصر يحافظ على العقيدة من جهة ويفك قيد العقل من ذهنية
التحريم القائمة على المكروه وسد باب الذرائع.
الثانية: صحة الأبدان
المواطن إن اعتلت صحته عجز عن العمل وأصبح بحكم عجزه الصحي غير قادر على التعلم
والإنتاج، وهذا يؤدي بالتالي إلى عجز في بناء عقل الإنسان بناءً علمياً مبدعاً،
فالعقل السليم في الجسم السليم. إن القاعدة
الثانية في استراتيجية الإصلاح لتفادي الوقوع في الهاوية هي الاستثمار في توفير
الخدمات الصحية بكل مستوياتها من الأوليَّة حتى التخصصية، وأن تكون هذه الخدمات
متوفرة لكل من يحتاجها من المواطنين، وألا تكون ميسَّرة لأصحاب السلطة والجاه
والمال عزيزة على العامة والمحتاجين من الشعب.
الرعاية الصحية في المملكة هي أقل بكثير من المطلوب واللازم
والضروري لبناء الإنسان المنتج المتعلم، وأقل بكثير من حاجة المواطن الصحية. المرض يدمر طاقة الإنسان وقدرته على
التعلم ويمنعه من الإنتاج ويشلُّ حركته ويعيق إبداعه.
الاستثمار في
توفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين، بدءاً بالفقراء والمحتاجين، هو ضمان لصحة
وسلامة المجتمع، وتهيئة للإنسان ليكون قادراً على التعلم وكسب المهارات ليكون
مواطناً صالحاً منتجاً، وهذه ركيزة أساسية في استراتيجية المستقبل.
الثالثة: حرية الإنسان يفقد الإنسان كل مقوماته
وقدراته وكرامته وإنسانيته إن هو فقد حريته، الحرية لا تعني المجون والفسق والعبث،
وعدم الالتزام الديني والأخلاقي والإنساني والوطني، بل هي على النقيض من ذلك،
فالإنسان الحر هو إنسان مسؤول وملتزم، الحرية تكسبه الكرامة وتلزمه بالمسؤولية،
فكل معتقل مسلوب الحرية، تسقط عنه المسؤولية، هذه شريعة الله في خلقه وشريعة العدل
بين الناس.
فلو هُيِّئ للإنسان عقل عامر بالعلم والمعرفة «الأولى» وألبس جسمه الصحة والعافية «الثانية»، ثم سلبت منه حرية القول والفعل والفكر والرأي،
لم ينفعه عقله ولن ينفعه جسمه وسيظل إنساناً معاقاً مكبلاً غير منتج، عبداً يساق
إلى غير إرادته، فاقد الرأي والإخلاص والإبداع وبذلك يفقد الإنسان المواطن مقومات
الحياة الحرة الكريمة على أرضه ويفقد معها ولاءه للوطن وللمجتمع. وفي هذه الحالة الموسومة بضعف أو انعدام
حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، لا يمكن بناء وطن من مواطنين فاقدي الحرية والإرادة
والولاء. وبناءً عليه
فإن حرية المواطن، يجب أن تكون القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع مؤسسات
السلطة السياسية بكل أشكالها: التنفيذية
والتشريعية والقضائية، وهذا ما أسميه بالإصلاح السياسي.
إن الإصلاح
السياسي هو القاعدة الأساسية والأرضية الصلبة التي يجب أن يبنى عليها كل إصلاح
يهدف إلى بناء الإنسان المواطن الصالح المنتج المبدع المتحضر لكي يُبنَى منه وبه
المجتمع الصالح المنتج المبدع المتحضر، وعندها يبقى البترول أو يذهب، ستكون
التنمية مستدامة ويكون الطريق إلى المستقبل آمناً من كل هاوية.
من المسؤول عن الأمر بالإصلاح وتنفيذه؟
دعوات الإصلاح
كثيرة ودعوتي واحدة منها، لكن مربط الفرس وجوهر القضية هي في: من هو القادر على الأمر بتنفيذ الإصلاح
ومتابعة تنفيذه والوقوف في وجه من يُعيقه؟
والإجابة
المباشرة على هذا السؤال هي: إن المسؤول
والقادر على تنفيذ الإصلاحات المهمة هو صاحب القرار الأول والمسؤول عن رعاية
وحماية مستقبل الأمة. في الماضي كانت
دعوات الإصلاح محصورة في عدد من المثقفين والمهتمين بالشأن العام، وقد يجري تجاهل
هذه الدعوات أو تأجيل النظر فيها من باب أن هناك متسعاً من الوقت، أو أن الأمر لا
يعني غالبية الشعب. اليوم الوضع
يختلف كلياً من وجهة نظري؛ لأن الدعوة إلى الإصلاح أصبحت عامة وليست محصورة في
دوائر ضيقة، يلمسها كل مهتم ومتابع للشأن العام. يلمسها في حديثه مع العامة، مع الطلاب،
مع المثقفين ومع الأغنياء ومع الفقراء ومع بعض المسؤولين. إن تراكم المشكلات وانتشارها سيؤدي إلى
الإحباط والقنوط لدى العامة، ومع تفاقم الأمور من جهة وعدم شعور المواطن أن شيئاً
من الإصلاح الحقيقي قد بدأ، سيفسح المجال للمتطرفين للدخول إلى الساحة. لذا أقول وأكرر القول إن الإصلاح يحتاج
إلى إرادة سياسية عليا فاعلة ترى بوضوح الخطر الداهم على هذا الوطن وتأخذ بيدها
قرار الإصلاح وتنفيذه.
أنا وغيري ممن ينشدون الإصلاح، ليس من واجبنا أن ننتزع السؤال أو الإجابة أو الإيضاح من فم المسؤول، لكن واجبنا الوطني يحتِّم علينا قول ما نعتقد أنه كلمة حق ونُلحُّ في طلب الإجابة فهذا حق لكل مواطن، فإن أصبنا فلنا الأجر وإن أخطأنا فلنا أجران.
ويبقى السؤال: ما هو الإصلاح المطلوب؟
ثلاث قواعد أساسية وجوهرية، إن بُني على أساسها وبموجبها المواطن صلح جسد الأمة كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي:
لذا فإنني أقول إن مناهجنا الدراسية يجب أن يكون ضمن محتواها وتكوينها فقه إسلامي معاصر يحافظ على العقيدة من جهة ويفك قيد العقل من ذهنية التحريم القائمة على المكروه وسد باب الذرائع.
الثانية: صحة الأبدان المواطن إن اعتلت صحته عجز عن العمل وأصبح بحكم عجزه الصحي غير قادر على التعلم والإنتاج، وهذا يؤدي بالتالي إلى عجز في بناء عقل الإنسان بناءً علمياً مبدعاً، فالعقل السليم في الجسم السليم. إن القاعدة الثانية في استراتيجية الإصلاح لتفادي الوقوع في الهاوية هي الاستثمار في توفير الخدمات الصحية بكل مستوياتها من الأوليَّة حتى التخصصية، وأن تكون هذه الخدمات متوفرة لكل من يحتاجها من المواطنين، وألا تكون ميسَّرة لأصحاب السلطة والجاه والمال عزيزة على العامة والمحتاجين من الشعب.
الرعاية الصحية في المملكة هي أقل بكثير من المطلوب واللازم والضروري لبناء الإنسان المنتج المتعلم، وأقل بكثير من حاجة المواطن الصحية. المرض يدمر طاقة الإنسان وقدرته على التعلم ويمنعه من الإنتاج ويشلُّ حركته ويعيق إبداعه.
فلو هُيِّئ للإنسان عقل عامر بالعلم والمعرفة «الأولى» وألبس جسمه الصحة والعافية «الثانية»، ثم سلبت منه حرية القول والفعل والفكر والرأي، لم ينفعه عقله ولن ينفعه جسمه وسيظل إنساناً معاقاً مكبلاً غير منتج، عبداً يساق إلى غير إرادته، فاقد الرأي والإخلاص والإبداع وبذلك يفقد الإنسان المواطن مقومات الحياة الحرة الكريمة على أرضه ويفقد معها ولاءه للوطن وللمجتمع. وفي هذه الحالة الموسومة بضعف أو انعدام حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، لا يمكن بناء وطن من مواطنين فاقدي الحرية والإرادة والولاء. وبناءً عليه فإن حرية المواطن، يجب أن تكون القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع مؤسسات السلطة السياسية بكل أشكالها: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا ما أسميه بالإصلاح السياسي.
من المسؤول عن الأمر بالإصلاح وتنفيذه؟
المالية العامة للدولة
حالها وأحوالها[9]
24/3/ 2014 م
المالية العامة
للدولة تشبه المالية الخاصة للفرد، في جانب منها ترصد الإيرادات (الدخل)، وفي الجانب الآخر النفقات. وعندما يساوي دخل الفرد نفقاته تكون
حالته المالية متوازنة لا فائض ولا عجز، و إن زادت إيراداته على نفقاته، يكون لديه
وفر وفائض يحفظه جانباً ويبقيه لحاجته المستقبلية كما يقول المثل الشعبي «احفظ القرش الأبيض لليوم الأسود». أما إن زادت نفقاته على إيراداته، فالأمر
يحتاج إلى معالجة مالية إما أن يستدين أو يبيع شيئاً من أصوله الرأسمالية، بيته
على سبيل المثال.
حال المالية
العامة للدولة هي كذلك من حيث المبدأ، لكنها تختلف من حيث الحجم و البنود والإدارة.
موضوعنا هو المالية العامة للدولة في المملكة العربية السعودية
من حيث مكوناتها الأساسية وتقلباتها، لكنني في هذا المقال سوف أتعرض لجانب
الإيرادات أما جانب النفقات فسوف يكون موضوعاً لمقال آخر.
توضح القراءة التاريخية لوضع المالية العامة للدولة تقلباً
حاداً أحياناً، ما بين الفائض والعجز. ففي عام 1960م كان إجمالي إيرادات الدولة 20,3 76,496 مليون ريال سعودي. وبلغت النفقات الحكومية في نفس العام (137,422) مليون ريال سعودي، وبذلك كان عجز
الميزانية (60,926 ) مليون ريال
سعودي. وفي العام 1981م بلغت الإيرادات (368,000) مليون ريال سعودي، مقابل نفقات حكومية في
نفس العام بلغت (284,651) مليون ريال، أي
بفائض قدره (83,354) مليون ريال. وهكذا دواليك كانت أمور المالية العامة
تتقلب بين مد وجزر.
أن يكون وضع
الميزانية السنوية للدولة فيه شيء من الفائض أو شيء من العجز فهذا أمر مرتبط
بالسياسة المالية العامة fiscal policy للدولة وظروفها
الاقتصادية، وهل الاقتصاد في حالة نمو أم انكماش. المهم في الأمر هو حجم وسرعة التغير في
وضع الميزانية العامة للدولة بين العجز والفائض.
فحص وتحليل المتتالية التاريخية لميزانية المملكة يوضح تقلبات
متتالية بين العجز والفائض تكون في بعض الأحيان حادة وسريعة. ففي عام (1972) كانت إيرادات الدولة 15,367 مليون ريال قفزت بعد عامين ( 1974) إلى 100,102 مليون ريال ثم قفزت مرة أخرى في عام (1981) إلى 368,006 ريال ثم هبطت بشكل حاد بعد أربعة أعوام
فقط (1985) إلى 133,563 مليون ريال. انظر (Abdulaziz M.Aldukheil: Saudi Government Revenues and
Expenditures, A Financial Crisis in the Making, Palgave, Macmillan, 2013.)
هذه الحقائق
الرقمية وغيرها لحال الميزانية السعودية في جانب الإيرادات تنم عن خلل بنيوي
تكويني) في البنية
الأساسية لمصادر الإيرادات الحكومية في ميزانية الدولة سببه التقلب في أسعار
البترول الذي يعتبر الممول الرئيس لإيرادات الدولة وميزانيتها.
ويكون السؤل
بذلك ما هو الخلل؟.
دعوني أعود بكم
إلى العام 1952م، ففي هذا
العام أوشكت الدولة على الإفلاس وذلك بسبب ضعف الإيرادات
وزيادة حجم
الإنفاق، وكان حينها إيراد الدولة من البترول قليلاً بسبب قلة حجم الصادرات
البترولية بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
طلبت الحكومة
السعودية آنذاك مساعدة صندوق النقد الدولي في ترتيب وضبط الأمور المالية والنقدية،
فأرسل الصندوق بعثة رأسها المرحوم السيد أنور علي وهو باكستاني الجنسية، وضعت
البعثة خطة لإعادة التوازن إلى المالية العامة للدولة ودعم قيمة الريال الذي كان
على حافة الانهيار. عُين السيد
أنور بعد ذلك محافظاً لمؤسسة النقد العربي السعودي ومُنح الجنسية السعودية. ( انظر Arthur N.Young “Saudi Arabia Currency and Finance» The Middle
East Journal 7.NO3 (1953.
لننتقل الآن من العام 1952م إلى العام
الحالي 2014م، أي بعد ما
يزيد على 60 عاماً و ننظر
إلى حال المالية العامة للدولة وأحوالها. أما حالها أي
تكوينها فلا يزال على ما هو عليه، اعتماد أساسي وكلي على الإيرادات النفطية. ففي العام 1960م (حسب إحصاءات مؤسسة النقد) كانت إيرادات البترول تمثل 80,6% وفي العام 2014 ارتفعت نسبة اعتماد الإيرادات العامة على
البترول إلى 93%.
هل يعتبر
اعتماد إيرادات الدولة بهذه النسبة العالية على النفط خللاً جوهرياً في بنيان
الاقتصاد الوطني؟.
الإجابة على هذا السؤال هي أنه، مادام الاعتماد على النفط بهذه
النسبة العالية ومادام مستقبل أسعار النفط ومصيره ومستواه محكوم بعوامل سياسية
واستراتجية واقتصادية هي بيد الدول العظمى وليست بأيدينا، فالخلل في بنية منابع
الإيرادات الحكومية كبير. لماذا؟.
لأن البترول
مادة محدودة الحجم حتى وإن كبر ذلك الحجم، فإنه يتناقص بشكل مستمر بفعل الاستخراج. ثمنه يعتمد على حجم الطلب العالمي عليه
وعلى ندرته. والدول
المستوردة للنفط خصوصاً الصناعية تحاول الحد من الطلب عليه أو استبداله إن أمكن.
ما علاقة
الإيرادات الحكومية بالاقتصاد الوطني؟
الإنفاق
الحكومي يتم تمويله كلياً من إيرادات الميزانية الحكومية، والإنفاق الحكومي هو
المحرك الأساسي
للاقتصاد
السعودي، فإذا كان الممول الأساسي للإنفاق الحكومي والعمود الفقري للاقتصاد
السعودي به خلل بنيوي، فإن هذا يعني بالتالي أن الاقتصاد السعودي يعاني في بنيته
الأساسية خللاً يهدد استقرار الاقتصاد وسلامته وقدرته على تحقيق تنمية حقيقية
مستدامة.
إذا كانت
البنية الحالية للاقتصاد الوطني ضعيفة ونخشى على مستقبل الاقتصاد منها، فكيف لنا
إعادة بناء الاقتصاد الوطني بشكل يؤدي إلى تنمية مستدامة قائمة على بنية اقتصادية
سليمة؟.
هذا سؤال يتعلق بماهية الإستراتيجية الاقتصادية السليمة، وحيث
إن الموضوع يتعلق بالاستراتيجية، فإن الإجابة سوف تقتصر على العوامل الاستراتيجية
التي يجب أن يبنى عليها الاقتصاد السعودي وهي في نظري مايلي :
أولاً: الحد من
الإنفاق الحكومي الذي لا يصب بشكل مباشر في بناء الإنسان، أي في صحته وتعليمه
وسكنه، وأن يكون هذا الإنفاق مبنياً على خطط وبرامج أخضعت للمعايير المهنية
والاقتصادية.
ثانياً : الحد من
الإنفاق الحكومي على المشاريع التي لا تحظى بجدوى اقتصادية استثمارية عالية
والأمثلة هنا كثيرة.
ثالثاً : الحد من الهدر
والفساد المالي الحكومي وإخضاع العابثين بالمال العام للمساءلة والحساب والعقاب
بصرف النظر عن سلطتهم السياسية أو قدراتهم المالية.
رابعاً :تحديد المعدل الأمثل لاستخراج النفط
السعودي، بما يحقق تعظيم القيمة النهائية والكلية للاحتياطات النفطية السعودية،
ليستفيد منه الجيل الحاضر والأجيال المقبلة.
خامساً: فرض ضرائب مباشرة على الأرباح العالية
للشركات وعلى الدخل العالي للأفراد من أجل زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية
لتمويل الإنفاق الحكومي. ولكنه يجب
التأكيد والتشديد هنا على أن المبدأ الأساسي والفريضة الكبرى لأي نظام ضريبي هي
العدالة في فرض الضريبة وهذا يعني بالتحديد:
• أن تفرض الضريبة على جميع الخاضعين لها دون استثناء لأي فرد أو
شركة مهما كان الجاه السياسي أو الحجم المالي لهذا الفرد أو تلك الشركة.
• أن تكون الضريبة تصاعدية
بشكل أساسي أي يُعفى الفقراء والمحتاجون منها وتفرض تصاعدياً على دخل الأفراد
وأرباح الشركات مع مراعاة الأثر الضريبي على نمو وتزايد حركة الاستثمار والإنتاج.
سادساً : الاستثمار
الاقتصادي في تطوير تقنية تحلية المياه، ومصادر الطاقة المتجددة والبحث العلمي
والثروة السمكية.
سابعاً: الحد من معدل
النمو السكاني المرتفع جداً، وذلك بالوسائل المختلفة ومنها التوعية بأهمية التنظيم
الأسري، من حيث عدد الأطفال، وأثره الإيجابي على دخل الأسرة ورفاهيتها.
قد يكون هناك
أمور أخرى يرى بعضهم أهميتها، لكنني هنا وكما أسلفت اقتصرت على العوامل
الاستراتيجية لأن حديثنا يتعلق بالاستراتيجية الاقتصادية.
ومرة أخرى أكرر
ما أنهيت به مقالاتي السابقة، وهو أن الإصلاح يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى إرادة
سياسية عليا فعالة، تؤمن بأهمية الإصلاح الاقتصادي، وتعقد العزم على تنفيذه بتأمين
وجود الآليات والسياسات والهيئات والأشخاص ذوي الكفاءة والإخلاص وتكليفهم بالمهمة.
وشهد شاهد من
أهلها:
أوردت العربية
نت في يوم الإثنين الموافق 4 مارس2014 تصريحاً لرئيس بعثة صندوق النقد الدولي (السيد تيم كالين) قال فيه «إن السعودية تواجه تحدي مواكبة النمو
الاقتصادي والاستمرار عليه بخلق الفرص الوظيفية، مؤكداً أهمية ألا تعتمد المملكة
في إيراداتها على النفط فقط، إذ من المحتمل أن تنخفض أسعاره ما يؤدي إلى تراجع
الإيرادات مستقبلاً، وعليها أن تنوع مصادر الإيرادات وخلق فرص أخرى للموارد
المالية. وتساءل في حال
انخفاض أسعار النفط ماذا ستفعل المملكة» وأضاف السيد
تيم كالين في تصريح آخر، أن الصندوق نصح وزارة المالية بالحد من الإنفاق الحكومي.
وهنا أضيف أنني
سبق أن قلت إن العلاقة الحميمة ما بين السعودية وصندوق النقد الدولي تعكس نفسها
على شيء من المجاملات. لكنه يبدو أن
الأمانة المهنية في نهاية المطاف يجب أن تكون لها الغلبة وإن كان ذلك سراً أو بصوت
منخفض. فالاعتماد شبه
الكلي على النفط في تمويل النفقات الحكومية وبها ومعها الاقتصاد السعودي من جانب
والزيادة المتصاعدة في الإنفاق الحكومي الاستهلاكي أو غير المجدي اقتصاديا، يشكل
خطرا على مستقبل الاقتصاد السعودي وعلى مستقبل الأمة، وهذا ما قلته وقاله غيري
كثيرون ومنذ زمن.
موضوعنا هو المالية العامة للدولة في المملكة العربية السعودية من حيث مكوناتها الأساسية وتقلباتها، لكنني في هذا المقال سوف أتعرض لجانب الإيرادات أما جانب النفقات فسوف يكون موضوعاً لمقال آخر.
توضح القراءة التاريخية لوضع المالية العامة للدولة تقلباً حاداً أحياناً، ما بين الفائض والعجز. ففي عام 1960م كان إجمالي إيرادات الدولة 20,3 76,496 مليون ريال سعودي. وبلغت النفقات الحكومية في نفس العام (137,422) مليون ريال سعودي، وبذلك كان عجز الميزانية (60,926 ) مليون ريال سعودي. وفي العام 1981م بلغت الإيرادات (368,000) مليون ريال سعودي، مقابل نفقات حكومية في نفس العام بلغت (284,651) مليون ريال، أي بفائض قدره (83,354) مليون ريال. وهكذا دواليك كانت أمور المالية العامة تتقلب بين مد وجزر.
فحص وتحليل المتتالية التاريخية لميزانية المملكة يوضح تقلبات متتالية بين العجز والفائض تكون في بعض الأحيان حادة وسريعة. ففي عام (1972) كانت إيرادات الدولة 15,367 مليون ريال قفزت بعد عامين ( 1974) إلى 100,102 مليون ريال ثم قفزت مرة أخرى في عام (1981) إلى 368,006 ريال ثم هبطت بشكل حاد بعد أربعة أعوام فقط (1985) إلى 133,563 مليون ريال. انظر (Abdulaziz M.Aldukheil: Saudi Government Revenues and Expenditures, A Financial Crisis in the Making, Palgave, Macmillan, 2013.)
لننتقل الآن من العام 1952م إلى العام الحالي 2014م، أي بعد ما يزيد على 60 عاماً و ننظر إلى حال المالية العامة للدولة وأحوالها. أما حالها أي تكوينها فلا يزال على ما هو عليه، اعتماد أساسي وكلي على الإيرادات النفطية. ففي العام 1960م (حسب إحصاءات مؤسسة النقد) كانت إيرادات البترول تمثل 80,6% وفي العام 2014 ارتفعت نسبة اعتماد الإيرادات العامة على البترول إلى 93%.
الإجابة على هذا السؤال هي أنه، مادام الاعتماد على النفط بهذه النسبة العالية ومادام مستقبل أسعار النفط ومصيره ومستواه محكوم بعوامل سياسية واستراتجية واقتصادية هي بيد الدول العظمى وليست بأيدينا، فالخلل في بنية منابع الإيرادات الحكومية كبير. لماذا؟.
هذا سؤال يتعلق بماهية الإستراتيجية الاقتصادية السليمة، وحيث إن الموضوع يتعلق بالاستراتيجية، فإن الإجابة سوف تقتصر على العوامل الاستراتيجية التي يجب أن يبنى عليها الاقتصاد السعودي وهي في نظري مايلي :
أولاً: الحد من الإنفاق الحكومي الذي لا يصب بشكل مباشر في بناء الإنسان، أي في صحته وتعليمه وسكنه، وأن يكون هذا الإنفاق مبنياً على خطط وبرامج أخضعت للمعايير المهنية والاقتصادية.
ثانياً : الحد من الإنفاق الحكومي على المشاريع التي لا تحظى بجدوى اقتصادية استثمارية عالية والأمثلة هنا كثيرة.
ثالثاً : الحد من الهدر والفساد المالي الحكومي وإخضاع العابثين بالمال العام للمساءلة والحساب والعقاب بصرف النظر عن سلطتهم السياسية أو قدراتهم المالية.
• أن تفرض الضريبة على جميع الخاضعين لها دون استثناء لأي فرد أو شركة مهما كان الجاه السياسي أو الحجم المالي لهذا الفرد أو تلك الشركة.
سادساً : الاستثمار الاقتصادي في تطوير تقنية تحلية المياه، ومصادر الطاقة المتجددة والبحث العلمي والثروة السمكية.
سابعاً: الحد من معدل النمو السكاني المرتفع جداً، وذلك بالوسائل المختلفة ومنها التوعية بأهمية التنظيم الأسري، من حيث عدد الأطفال، وأثره الإيجابي على دخل الأسرة ورفاهيتها.
حرية الرأي بين المقال الأول والمقال الاخير[10]
15
فبراير 2015 م
وهو يعد العدة
لإصدار صحيفة الشرق عام 2011 هاتفني أخي قينان الغامدي وطلب مني الكتابة في صحيفته
الجديدة فقلت له : أخي قينان كانت لي تجارب سابقة مع رؤساء تحرير
سابقين و كانت مقالتي عبئا لم يستطيعوا حمله ومنهم خالد المالك في الجزيرة و
جهاد الخازن في صحيفة الحياة وعثمان العمير في الشرق الأوسط. وجمال
خاشقجي في الوطن. قال: وما هو شرطك قلت ألا تمس يد رئيس التحرير أو من
ينيبه المقال تحسينا وتجميلا، ملائمة اوموائمة، ينشر المقال كله آو يترك كله
قال: قبلت، قلت: وأنا قبلت.
مقالي الأول
والذي نشر في العدد الأول من صحيفة الشرق بتاريخ 5 ديسمبر 2011 كان
بعنوان حرية الرأي وفيه قلت نصا:
((حرية
الرأي موضوع تاريخه مرتبط بتاريخ الإنسان في علاقته مع الآخر فرداً كان ذلك
الآخر أو جماعة. هذه العلاقة تتشكل من حيث قوتها وأصالتها بما يملكه
الفرد من حرية التعبير عن رأيه ومشاعره في القول أو الفعل الذي حل به
بموجب هذه العلاقة.
العلاقة بين
الفرد والآخر تكون معبرة بشكلِ حقيقي وصادق عن كنه العلاقة كلما كان الفرد حراً في
التعبير عن رأيه .
حرية الرأي
وتأثيرها الإيجابي علي تكوين منظومة العلاقات بين الفرد والآخرين مهمة في مجال
العلاقات الشخصية العائلية أو غير العائلية لكنها، أي حرية الرأي، تأخذ
بعداً أهم ودوراً أكبر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم أي بين الفرد والدولة.
وحيث أن حرية
الرأي من أعظم وأهم الأسس والقواعد التي تبني عليها العلاقة بين الفرد والدولة فقد
نُصّ عليها في الدساتير بعد أن نادت بها المدارس الفلسفية التي تؤمن بحرية
الفرد وكرامة الإنسان.
وكما أن حرية
الرأي لها دور وأثر إيجابي في إطار العلاقات الشخصية فإن أثرها الإيجابي أعظم
وأكبر في بناء العلاقة بين الفرد والدولة. حرية الرأي تجعل الفرد قادراً على
التعبير عن ما يشعر به تجاه ما تقوم به الدولة من أمور تتعلق به وبمستقبله ومستقبل
أبنائه والمجتمع الذي يعيش فيه والوطن الحامل هويته والحاضن لتاريخه، دون خوف أو
وجل.
صدق المشاعر
وصراحة القول مشكوك بها في ظل الخوف على النفس والمال إلا ما ندر. حرية الرأي تجعل
الدولة أكثر إيماناً وتصديقاً بما يقوله الناس عنها لأنها تعرف أنهم غير
مجبورين أو مأجورين لذا فانه في إطار حرية الرأي تكون معالجة الدولة للقضايا
التي تمس المواطن ، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أقرب إلى تطلعات
المجتمع ورغباته وأقرب إلى الواقع والحقيقة.
الدولة لا تلام
إن هي أخطأت الهدف أو لم تحسن الأداء ، ما دام هناك حرية للرأي مضمونة فالكل
هنا شركاء في الخطأ، الدولة والمواطن، أما وإن كان باب حرية الرأي موصداً ودونه ما
دونه، فالمواطن الفاقد لحرية الرأي لا يلام ، وتتحمل الدولة الوزر بكامله.
هذه المعادلة لا تصح فقط علي حالةٍ لوحدها أو مشروعٍ بعينه وإنما تصح علي كل
أعمال الدولة وأفعالها وأقوالها.
غياب
حرية الرأي بمفهومها الحقيقي وليس التقليدي في كل البلاد التي عمها الربيع
العربي كان أحد العوامل الرئيسة التي أوصلت الأمور إلى دائرة الأزمة المستعصية بين
الدولة والمواطن. تراكمت الأخطاء وتراكمت الأزمات وأفواه المواطنين
مقفلة وممنوعة عن الكلام وعن الجهر بالقول عن الفساد وأسباب الفساد وكيف يمكن علاج
الفساد حتى عم الفساد وكبر واستفحل وأصبح التفكير في علاجه ضرب من الخيال أو شيء
من الأمنيات المستحيلة . أصاب القنوط المواطنين وفقد المصلحون الأمل في
الإصلاح وسارت الأمور من سيء إلى أسوأ وهكذا دواليك حتى جاءت لحظة
الحقيقة فكسر الشعب حاجز الخوف وعلت الحناجر تطالب بالحرية والكرامة وتطالب
من قيدوا حرية الرأي بالرحيل . هذا ما يتلوه علينا التاريخ العربي المعاصر أما
التاريخ العالمي فهو مليء بالعبر والشواهد لمن يريد أن يعتبر.
قد يقول قائل
إن لحرية الرأي قيد لابد أن تربط به وإلا ، اختلط الحابل بالنابل ، وأقول: القيد
مناف للحرية لغة ومعنى ، والقيد باب يلج منه من يريد أن يفرغ حرية الرأي من
مضمونها وفعلها.
نعم يجب أن
يكون لحرية الرأي قواعد وقيم تنظمها ولا تلغيها أو تحد من دورها. هذه القواعد
والقيم علي مستويين: الأول فردي : حيث يفرض الفرد علي نفسه معايير تضبط
استخدام الحرية في الرأي منها المعيار المنطقي والمعيار العلمي والمعيار
الأخلاقي ؛ والمستوي الآخر هو المستوي الجمعي ؛ وهنا يضع المجتمع معايير وقيم
ترسم الفلك المجتمعي والأخلاقي لممارسة حرية الرأي. في المجتمعات الديمقراطية يرسم
هذا الفلك ويؤطره ممثلو الأمة في برلماناتها.
وإن تعذر ذلك
فالعرف والتقاليد المجتمعية هي التي تقوم بذلك. إما أن يوكل إلى الحكومات وضع
ضوابط وقيود علي حرية الرأي فهذا أمر قد يفرغ حرية الرأي من مضمونها الحقيقي
وهدفها الأساسي وهو حماية الفرد من قوة الدولة.
عندما يتعذر
وجود قانون ملزم للدولة يحمي حرية الرأي يصبح واجب مؤسسات المجتمع المدني وأهمها
في هذا المجال المؤسسات التي ينضوي تحتها المثقفون والأكاديميون والكتاب حماية
حرية الرأي والوقوف في وجه المعتدين عليها حتى يصبح هذا الموقف عرفاً ومبدءاً
مجتمعياً قوياً يصعب علي وزير الثقافة أو الإعلام أو أي مسئول كان تجاوزه والقفز
عليه.
منذ فترة
هاتفني الأخ والصديق قينان الغامدي وطلب مني أن أشارك في كتابة مقال أسبوعي في
جريدة الشرق التي عُين رئيساً لتحريرها ، والأخ قينان تربطني به صداقة صحفية
منذ أيامه في جريدة الوطن ، فلم أستطع إلا قبول الدعوة شاكراً، ثم قلت له أرجو أن
يكون في هذه الجريدة الجديدة إضافة نوعية ومنبر يأخذ حرية الرأي مسافة إلى
الأمام . بعد انتهاء المكالمة وإذ بسؤالٍ يلح علي : كيف قبلت وأنا الذي
قررت الانسحاب الجزئي من الكتابة الصحفية؟
كنت قد أحسست
منذ فترة ورغم ما يقال عن الانفتاح ، أن الكلمة أحياناً تقف في صدري وتمنع من
الخروج كما أريدها. شرطي الوحيد عندما أكتب أن يُقبل المقال كله أو
يُرفض كله إلا من تصويبات اقبل بها ليست لها علاقة بجوهر الموضوع.
لم أتردد في
قبول الدعوة إلى الكتابة لان الأمل كان أقوي من الإحباط وفقدان الأمل
في الإصلاح والحرية يفرغ الحياة من معناها الحقيقي.))
مقال الاخير في
الشرق (مستقبل مجهول يصنعه حاضر غير سوي ) الذي نشر بتاريخ 4 فبراير 2013
وحسب اعتقاد الكثيرين من المغردين والمعلقين كان السبب في اقالة
قينان من رئاسة التحرير وايا كان السبب فقد ذهب قينان وقد وفي بوعده
ولم يمس أي من مقالاتي بسوء , كان أمينا وفيا بوعده.
اهم من وعده لي
كان قينان وفيا لوعد قطعه على ضميره وهذا قولي وليس قوله ، بأن لا يكون حاجبا
لكلمة حق يرى أنها في مصلحة الأمة . كان قينان رمزا لرئيس تحرير يصارع
القيود ويحاول رفع سقف الحرية ما أمكن . حمل قينان سقف هذا الباب على
كتفيه لكي يلج منه كل كتاب صحيفته ، زاد الحمل عليه بين كتّاب يدفعون بسقف
الحرية إلى أعلى ونظام يملك السلطة يريد إبقاءه منخفضا . القول الفصل
والقرار في يد صاحب السلطة فذهب قينان . إقالة قينان في نظري تاج على
رأسه وعمل وطني يسجل له .
حرية الرأي حق
اصيل لكل مواطن في الدساتير الدينية والمدنية وليست هدية من الحاكم يمنحها
لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء .
يذهب قينان
وأذهب أنا ويذهب غيري ويبقى الوطن.
عندما يتفق الليبرالي والفقيه[11]
5 مارس 2013 م
سأبدأ بإيضاح ما أعنيه بالمفردات لكي لا تؤول النصوص خارج
سياقها وتعطي الجمل معان غير معانيها.
الليبرالي:
في هذا النص هو أنا، والليبرالي في هذا النص هو الذي جعل من
عقله عجلة القيادة للوصول إلي عقيدته ومبادئه وأعطى لعقله السيادة على توجيه وضبط
سلوكه وتصرفاته.
الفقيه:
في هذا النص هو فضيلة الأخ الدكتور عائض القرني. هو فقيه
بحكم تخصصه العلمي في الشريعة الإسلامية وأحكامها ومساهماته في المجالات
الإعلامية والدعوية المختلفة في تفقيه الناس بأمور دينهم.
موضوع المقال:
هو إعادة قراءة لمقال الدكتور عائض القرني الصادرفي صحيفة
الشرق يوم الاثنين 24 ديسمبر 2012 بعنوان (بعد سفري للشرق والغرب اكتشفت أن
الحضارة في العقول) والقيام بشيء من الحفريات في جمله ومعانيه بعين وعقل ليبرالي.
يقول الدكتور القرني في عنوان مقالته (بعد سفري للشرق
والغرب اكتشفت أن الحضارة في العقول) ويقول إن جميع الأسباب المادية
لكي نترقى ونتمدن ونتحضر في دنيانا موجودة لدينا ولكننا لسنا كذلك ويعيد
السبب في ذلك إلي إشكالية التربية والتعليم (فالإنسان يحتاج إلي تحول حضاري يأخذه
من طباعه الصحراوية والقاسية إلي الطباع الحضارية الموسومة بالأدب والأخلاق
والإنتاج واحترام حقوق الإنسان علي الإنسان) ثم يشير إلي الوعاء الحامل لكل
مظاهر التحضر التي شاهدها ولامسها ويقول إنه الإنسان ( فمن خلال التجول في مدنهم
وأريافهم وجدت كل شيء من أمور دنياهم يسير في جمال ورتابة وتنسيق ونظام دون فوضوية
أوبعثرة أو ارتباك أو خلل والسبب هو الإنسان وحده).
من المؤكد أن الدكتور القرني يقصد عقل الإنسان فالإنسان عقل
ولحم ودم وعظم ولا أظن أنه يعني إلا عقل الإنسان كما جاء في عنوان المقال.
ويواصل الدكتور القرني التأكيد علي أهمية تطور الإنسان
لتطور الحياة فيقول (هناك إنسان ترقي في سلم التمدن الدنيوي والتحضر المادي وهناك
إنسان بقي في الدرج الأول من السلم يستهلك ويستخدم ويتمتع دون أن يشارك في التصنيع
والإنتاج والابتكار والاختراع والاكتشاف ومع ذلك لايجيد حتى استعمال هذه الوسائل).
جميع هذه الصفات السلبية لمن هم في قاع السلم الحضاري – والمعني بذلك مجتمعنا –
تعود أسبابهاإلي تخلف العقل وعدم قدرته علي المشاركة في الإنتاج من خلال الابتكار
والاختراع وأكثر من ذلك عدم قدرته علي حسن استخدام منتجات العقل الأجنبي المتحضر
في البلاد التي زارها.
ويؤكد الدكتور القرني أن العوار ليس في الإسلام وإنما في
عقل الإنسان وما بداخله من تعليم ومفاهيم غير حضارية أدت به إلي التخلف عن
المشاركة في بناء حضارة الإنتاج والاختراع وإلى سلوك غير حضاري في التعامل مع
منتجات العلم والتقنية.
ثم يعرج الدكتور القرني في نهاية المقال إلي جانب من جوانب
التحضر التي وجدها عندهم ولم يجدها عندنا وهو الحساب والعقاب في الدنيا لمن أساء
التصرف وأخل في أداء الواجب حسب النظام والقانون فالوزير أوالمسئول يستقيل
إذا أخطأ ويتحمل المسئولية.
هذا ملخص لما قاله الدكتور عائض القرني وأظنه مختصراً
شاملاً ودقيقاً.
عنوان المقالة يحمل الكلمة ألتي تشبه خاتم سليمان في سحرها
هذه الكلمة هي العقل. ورغم أنني لم أجد في صلب المقال إعادة لهذه الكلمة حيث يبدو
أن الدكتور عائض قد اكتفي بالإسهاب في سرد المنتجات السلوكية للعقل
المتحضر بدلاً من تكرار سبب الفعل.
الصراع الفكري بين العقل والنقل موضوع كان حاضراً في تاريخ
الفقه الإسلامي بعد صدر الإسلام وعصره النبوي وأنا لا أريد استدعاء كل تلك المدارس
الفقهية من المعتزلة إلي ابن رشد وأتباعه والغزالي وأنصاره وفي زمننا
الذي ليس ببعيد محمد عبده وطه حسين والطهطاوي ومن خالفهم ، لا أريد استحضار كل هذا
الجدل لكنني لا بد أن أقول إن بعضأً من الفقهاء الأقدمين
والمعاصرين وقف ضد العقل موجهاً أساسياً للإنسان في البحث والوصول إلي
عقيدته وترشيد سلوكه رغم أن الله تعالى طلب من عباده استخدام العقل في الوصول إلى
الإيمان به وبرسوله. كلمة العقل هذه هي التي جذبني سحرها إلي إعادة
قراءة المقال موظفاً في ذلك أدوات العقل الليبرالي في التفكير والتحليل.
بعد هذه المقدمة أقول, اتفق أنا والدكتور القرني علي أن قيم
الحضارة والرقي يختصرها الإنسان في سلوكه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وقد أتي
الدكتور القرني في صلب مقالته بالجوانب المختلفة لهذا السلوك. وعندما يكون مجموع
السلوك الفردي الإيجابي في عينة مجتمعية طاغياً على مجموع السلوك الفردي السلبي
فإن ذلك دليل على رقي المجتمع وتقدمه ومدعاة لوصفه بأنه مجتمع متحضر. وأعتقد أنني
والدكتور القرني نتفق على أن الجوهر في الإنسان هو العقل لذلك جعل العقل سبباً في
السلوك الصالح والطالح للإنسان ووضع ذلك عنواناً لمقاله، لكن السؤال الذي
يطرح نفسه بإلحاح هو: ما هو ذلك المخزون من الوقود في العقل الذي يكون ويشكل ويدير
ويحرك آلة العقل؟ تحدث الفلاسفة وأهل المنطق في ذلك كثيراً وقسموه إلي مكونات
أساسية أو طبيعية ومكونات مكتسبة والمقال لا يتسع حتى
لتلخيص العناوين الرئيسية في الموضوع لكن ما هو مهم أنني والدكتور نتفق حسب مقاله
على أن المكون التعليمي الذي يتلقاه الإنسان هو الوقود الأساسي الذي يحرك العقل
ويديره ويوجهه نحو الاتجاه المنطقي السليم. وإذا اتفقنا على ذلك يكون
السؤال: ما هو محتوى المكون التعليمي للإنسان السعودي الذي جعله ينحرف
عن الصراط السلوكي الحضاري السليم كما جاء في مقال الدكتور القرني؟ وجوابي على ذلك
هو أن المكون الأكبر في الحزمة التعليمية المشحونة في عقل الطالب السعودي خصوصاً
في مراحله الابتدائية والمتوسطة، وهي مراحل هامة جداً في تكوين العقل الطلابي
السعودي، هو مكون طابعه ومحتواه العام من الفقه الديني ذي الميول المتشددة
والمحافظة التي تحرم أو تقيد الطالب السعودي بشكل خاص والمواطن السعودي بشكل عام
من استخدام آلية العقل في التحليل والتفكيك من أجل فهم أعمق وأصدق لتلك
النصوص والمسلمات الفقهية أو حتى التراثية التي تشكل الجزء الأكبر من مناهج طلابنا
في المدارس ومناهجنا في الحياة العامة.
لابد لنا في الأمر الديني أن نفرق بين أمرين أساسيين:
الأول/ هو المقدس الثابت الذي لا يخضع لآليات البحث
والتحليل العقلي، وهذا المقدس المتعالي فوق العقل البشري هو كتاب الله
والثابت الصحيح المتواتر من حديث نبيه محمد. دور العقل هنا هو البحث والتبصر
والتعقل من أجل الوصول إلي الإيمان بالله وبرسوله لكن إن أشكل الأمر على
العقل فلابد للعقل أن يترك الساحة للإيمان بأن قدرة العقل البشري لا تستطيع أن
تتجاوز في قدرتها قدرة الخالق للعقل البشري.
الثاني/ هو كل ما تبقي من منظومة
الدين الإسلامي خارج النصوص القدسية وهي كلها أقوال علماء وفقهاء ومفسرين ومحدثين
وأئمة أجلاء لهم كل الاحترام والتقدير لكنهم كلهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون
يؤخذ منهم ويرد عليهم. ما ورثناه عنهم لاشك أنه إضاءة واجتهاد في بيان علوم الدين
والشريعة والعقيدة في كثير من جوانبها لكن هذا كله لا يعني على الإطلاق أن نقف حيث
وقفوا ونردد ما قالوا دون تحليل وأعمال أكبر للعقل المسلم الجديد العالم العارف
المسلح بكل علوم الدنيا الجديدة وتقنياتها.
العقل السعودي في نسخته الطلابية، وهذا هو الأهم، وفي نسخته
العامة محتل بشكل كبير بالأدبيات الفقهية الدينية التي حُميت وحُصنت من تحليل ونقد
وإضافات وإبداعات العقل المسلم الفقيه العالم المتحضر المتطور الملم بآليات
وأدوات العقل التحليلي لذلك فان ما أنتجه العقل السعودي من تخلف في السلوك
والإنتاج والإبداع والاختراع ليس له علاقة بجوهر الدين وقيمه ومبادئه المقدسة
وإنما هو في معظمه نتاج فقه وتعليم وتراث لم يتعرض للشمس والنور منذ
قرون طويلة وبقي محصنا من فقه وفلسفة العقل المسلم العالم المستنير .
أكرر هنا واختتم بما قلته سابقاً (انظر صحيفة الشرق العدد
386 بتاريخ 24/12/2012 المقال بعنوان “المرأة في مجتمعها السعودي”أنه لابد من
إفساح المجال لنقد عالم عارف مسلم متخصص لفقه الأوائل من العلماء والفقهاء وما
يصاحبه من تراث وعادات وتقاليد تلبس في كثير من الأحيان ثوب الدين
والدين منها براء , دون حجر أو إكراه أو تكفير أو تغريب. نقد ملتزم
بالثوابت من المقدس ، محلل وناقد ومطور ومكمل لغيره من فقه وعلوم دينية أو مقولات
وموروثات وتقاليد شعبية. بهذا المنهج التطويري الإبداعي العلمي العقلاني للموروث
الفقهي مع تطوير غيره من المناهج العلمية والرياضية وتبني سياسة تعليمية تقوم على
تفعيل دور العقل في الاستشكال والسؤال بدلاً من التسليم والاذعان سينهض العقل
السعودي من كبوته وينهض معه وبه الإنسان السعودي والمجتمع السعودي ونلحق جميعاً
بركب الحضارة البشرية وتقدمها ومعنا هويتنا الدينية في نسختها الأصيلة الحديثة
وعقولنا المبدعة المتطورة العالمة والمؤمنة بحرية الإنسان وكرامته وحقوقه. عندها
لن يضطر أخي الدكتور عائض القرني إلى السفر إلي بلاد الدنيا ليشعر ويلامس الحضارة
والتقدم بل سيجدها هنا صناعة وطنية.
4/ 4/2014 م
توسعة الحرمين
الشريفين في السنوات القليلة الماضية وتلك التي تحت الدراسة بلغ إجمالي ما أنفق
عليها حتى تاريخ 9 رمضان 1434هـ (128 بليون ريال سعودي) نقلاً عن تصريح للدكتور
عيسى راوس وكيل وزارة الحج والعمرة (جريدة الرياض 9 رمضان 1434هـ الموافق 18 يوليو
2013 م) وهذا رقم كبير جداً. السؤال الذي أريد مناقشته في هذا المقال هو: هل أخضعت
هذه الأموال الطائلة من الريالات التي أنفقت في توسعة الحرمين الشريفين للمعايير
الاقتصادية؟ ومعنى أخضعت للمعايير الاقتصادية أو ما يسمى في علوم الهندسة المعمارية VALUE
ENGINEERING، هو اختيار
التصاميم الهندسية ومعها المواد والآلات اللازمة للبناء من مواد جيدة تخدم الغرض
الأساسي من المشروع دون إسراف أو زيادة في التكلفة لتحقيق أغراض تتعلق بالضخامة
وإبهار الآخرين. وبذلك يكون المشروع قد خضع للضوابط والمعايير الهندسية والاقتصادية.
وهنا يقفز سؤال
هام : ما هو الهدف الأساسي من توسعة الحرمين الشريفين؟
والإجابة
السهلة والمباشرة هي: تهيئة متسع من المكان الملائم للحجاج والمعتمرين من أجل أداء
شعيرتهم الدينية الحج والعمرة بيسر وخشوع مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفقه
الإسلامي لا يشجع على البذخ والتفاخر والزخرفة في بناء المساجد، لكي لا تصبح زينة
المساجد هدفاً في حد ذاتها، فتأخذ من المصلي شيئاً من خشوعه وروحانيته. وفي هذا
الخصوص ” ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يكره زخرفة المسجد بذهب أو فضة أو نقش أو صبغ
أو كتابة أو غير ذلك مما يلهي المصلي عن صلاته لما أخرجه ابن حيان في صحيحه وأبو
داوود و ابن ماجة في سننهما”
إذن نحن أمام
شرطين أحدهما فقهي والآخر اقتصادي يدعوان ويحضان علي عدم الإسراف من حيث المظهر
والمخبر في بناء المساجد. الأموال التي صرفت وتصرف الآن على توسعة الحرمين
الشريفين، هي من الأموال العامة، أي من خزينة الدولة, وهذه الأموال العامة هي ملك
للأمة، ويجب أن تصرف لخدمة مصالح الأمة حاضراً ومستقبلاً. المملكة العربية
السعودية شرفها الله برعاية وخدمة الحرمين الشريفين والحجاج والمعتمرين، لكن ذلك
لا يعني على الإطلاق أن تصرف أموال الأمة على (1) توسعة الحرمين الشريفين توسعة
كبيرة جداً تتطلب إخلاء مبان ومساكن كثيرة من أهلها ثم تعويضهم عنه بمئات أو
آلاف الملايين (2) وعلى مواد بمواصفات ذات تكلفة عالية جداً يمكن إبدالها بمواد
ومعدات أخرى تؤدي الغرض لكن بتكلفة أقل.
فبالنسبة لحجم
التوسعة يبرز السؤل: ما هو الحجم الأمثل للتوسعة؟ هل حجم التوسعة مرتبط بعدد
المسلمين في العالم ورغبة نسبة منهم في الحج و العمرة مرة أو مرات؟
أولا: الحج لم
يفرض علي كل مسلم ومسلمة بالمطلق وإنما فرض الحج لمن استطاع إليه سبيلاً. يقول جل
وعلا في محكم كتابه: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) سورة آل
عمران الآية 79. والاستطاعة كما وردت في الكثير من الأحاديث المنقولة عن النبي صلي
الله عليه وسلم هي ” الزاد والراحلة ” وأورد المفسرون والفقهاء شرحاً للاستطاعة
وذكروا منها القدرة المالية وصحة البدن وتوفر وسائل الحياة الضرورية كالماء والأمن
وغيرها. هذا من حيث الوجوب أما من حيث عدد المرات فقد سُئل رسول الله هل الحج كل
عام فلم يجب وعندما كرر عليه السؤل قال “لا ولو قلت نعم لوجبت ” ( تفسير ابن كثير).
المسلمون في
جميع بقاع العالم تزداد أعدادهم والحمد لله في كل دقيقة إما بالولادة أو بدخول أعداد
من غير المسلمين الإسلام, فإذا فتح باب الحج بدون قيد وشرط فلن تكفي كل مكة
والمدينة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين. إذن فإنه لابد من أن تكون
القيود والشروط الموضوعة لضبط أعداد الحجاج المسموح لهم سنوياً بأداء فريضة الحج
أكثر فعالية وملائمة للحجم المتاح من المكان والمال العام المتاح للصرف على
الخدمات العامة للحجاج.
شرط الاستطاعة
المالية للحاج من وجهة نظري تشمل قدرة الحاج المالية علي دفع تكاليف أكله وشربه
وسكنه وما يستهلكه من ماء وكهرباء وتكاليف الطرق والمواصلات وخدمات الأمن والرعاية
الصحية وكل ما يتطلبه الأمر لإتمام فريضة الحج. وإذا لم يكن الحاج قادراً مالياً
علي دفع تكلفة كل هذه الخدمات المتعلقة بالحج فإن شرط الاستطاعة المالية لا يتحقق
ويقع الأمر علي كاهل المالية العامة للأمة كما هو حادث اليوم. هذا موضوع آخر
وتكاليف أخري ليست ضمن تكاليف توسعة الحرمين الشريفين التي نتحدث عنها لكنها أموال
تصرف علي الحج من الأموال العامة للأمة, والأمة بها الفقير والمحتاج والمريض ومن
ليس له سكن أو مدرسه وهذه قضايا مكلف بها الحاكم والمسئول عن رعاية الأمة وتأمين
حاجاتها الأساسية, وفي رأيي أن هذا باب يسبق في الأولوية أبواب الإنفاق علي توسعة
الحرمين الشريفين أو الخدمات المتعلقة بالحج والعمرة.
أعود مرة أخرى
إلي موضوع التوسعة وأقول إن علي صاحب القرار أن يسعى لتحقيق الحد الأمثل
للتوسعة الذي يتمشي مع العوامل الطبوغرافية المتعلقة بموقع الحرمين الشريفين من
جهة وما يمكن تخصيصه من المال العام للأمة من جهة أخرى. فكلا العاملين الأساسيين,
الأرض والمال محدودان: الأول بحكم الطبوغرافيا والثاني بحكم محدودية المال العام
للأمة الذي يمكن أن ينفق علي مشروع واحد حتى ولو كان ذلك يتعلق بتوسعة الحرمين
الشريفين.
أما بالنسبة لطبيعة المخططات الهندسة للمشروع والمواد
الإنشائية أو الكهربائية أو غيرها فهذا مجال لا استطيع الحديث عنه إلا
بالقول كما أسلفت أنه لابد من تطبيق معايير التقييم الاقتصادية لمنع الإسراف
والتبذير باستخدام مخططات أو مواد ترفع من تكلفة المشروع من أجل الفخامة
والتباهي. وهذا مطلب أصبح معتمداً في كل المشاريع المحلية والعالمية وأصبح فرعاً
من فروع كليات الهندسة المعمارية. كما أن نظام المشتريات الحكومية حسب ما اعتقد
يتطلب إخضاع المشاريع العمرانية للفحص الاقتصادي أي VALUE ENGINEER
الأموال التي
تنفقها الدولة بسخاء على توسعة الحرمين الشريفين هي كما أسلفت من الأموال العامة،
والتي من المفترض أن تخضع من حيث الاعتماد للقواعد المنظمة لإعداد الميزانية
العامة للدولة ومن حيث الإنفاق للقواعد المنظمة للمشتريات الحكومية. لكنني
اعتقد أن شيئاً من ذلك لم يحدث وهذا الاعتقاد وارد في ظل غياب المعلومات والتفاصيل
عن بنود الميزانية وأبوابها من وزارة المالية التي يبدو أنها لا ترى أن من حق
المواطن والمتابع للشأن العام أن يسأل ويتابع أوجه الإنفاق, كما يبدو أن وزارة
المالية أيضاً لا ترى أن الأموال التي تأمر باعتمادها أو إنفاقها هي
أموال الأمة وأن كل مواطن له الحق أن يسال ويعلم أين وكيف صرفت الأموال العامة.
اعتقد أن بعض الأموال العامة تعتمد وتنفق خارج قواعد
الميزانية وخارج نظام المشتريات الحكومية مما يعني أيضا أنها خارج دائرة المراجعة
والتدقيق من قبل ديوان المراقبة العامة. وزارة المالية لديها الخبر الأكيد
وهي المعنية بالإجابة على هذه الاعتقادات والظنون والتساؤلات وغيرها المتعلقة
بإنفاق الأموال العامة والمحافظة عليها وتصحيحها. أيضا كم كنت أتمنى أن أطلب من
مجلس الشورى إيضاحاً عن حجم الأموال المنفقة على توسعة الحرمين الشريفين
وكيفية إنفاقها، ولكنه يبدو لي أن مجلس الشورى خارج المعادلة وفاقد الصلاحية
فيما يتعلق باعتماد الميزانية العامة للدولة ومراجعة أوجه الصرف الحكومي
وأسلوبه, وكما قيل فاقد الشيء لا يعطيه. وأيضاً لا أظنني سوف أجد مطلبي لدى
نزاهة حيث يبدو أن مثل هذه المشاريع العملاقة ذات الطبيعة الخاصة هي خارج سلطتها
أو قدرتها رغم أنني كنت اعتقد كما تردد وقت إنشائها أن ” كائن من كان وفي أي مكان
كان هو خاضع لمساءلتها”.
و لكي لا يظن
البعض أن حديثي عن ضبط الإنفاق العام وترشيده مقتصر على توسعة الحرمين الشريفين
وما يعنيه ذلك بالنسبة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، فقد سبق لي أن قلت مرات
عديدة ولا أزال أقول حتى اليوم أن الهدر المالي في الإنفاق الحكومي موجود وملاحظ
في مشاريع عديدة وفي مناطق مختلفة في المملكة. لكن ما يتعلق بموضوع توسعة الحرمين
الشريفين له طابع فيه شيء من الخصوصية سواء من حيث اعتماد المبالغ وحجمها أو من
حيث حصر التنفيذ على شركات محددة، وفي كلا الأمرين خروج على قواعد الميزانية، وعلى
قواعد المنافسة في العطاءات كما ينص عليها نظام المشتريات الحكومية.
دعوني الآن
أنتقل من الحاضر إلى المستقبل وأسأل: متى سيتوقف هذا التوسع والتمدد في بناء
الحرمين الشريفين والمرافق التابعة لهما، ومعه إنفاق المال العام الذي هو ملك وحق
لجميع المواطنين من هذا الجيل والأجيال القادمة؟
هل هناك حد
أمثل تقف عنده ولفترات طويلة توسعة الحرمين الشريفين والصرف بشكل كبير علي الحج
وخدماته؟ أم أن توسعة الحرمين الشريفين باب مفتوح على مصراعيه علي الأموال العامة؟
وهناك سؤال آخر
يتعلق بأعمال الصيانة والمحافظة على ما بني وأنجز: من سيقوم بالإنفاق عليها؟ وهل
سيكون ذلك أيضاً من ميزانية الدولة والأموال العامة؟
إن الدولة إلى
جانب واجبها رعاية وحماية حجاج بيت الله والمعتمرين، فإن واجبها الأساسي هو حماية
ورعاية مواطنيها من الفقر والجهل والمرض في جميع مناطق المملكة ومدنها وقراها. لذا
فإنني أقترح أن يكتفى في مجال توسعة الحرمين الشريفين بما تم واعتمد، وأن يوضع
تنظيم للإنفاق على أعمال الصيانة والترميم والتطوير لما هو قائم الآن من خلال
صندوق عام يشرف عليه المجلس البلدي في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة يمول من
:
1- ضريبة على
الأرباح تفرض على ملاك العقارات والفنادق داخل حدود الحرمين الشريفين فهم
المستفيدون من زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين.
2- رسم يفرض على
كل حاج أو معتمر من السعوديين وغير السعوديين يخصص لأعمال صيانة المسجد والمرافق
التابعة له.
3- أي وقف يوقف
لهذا الغرض، أو هبات تمنح لهذا الصندوق.
عذراً معالي الوزير، فخطوط دفاعك لا تحمي الاقتصاد الوطني[13]
8 /6 /2014 م
في الأيام
القليلة الماضية ، زار السيد جيم كيم مدير البنك الدولي للإنشاء و
التعمير ، ومقره واشنطن ، المملكة العربية السعودية ، وعقد مع معالي وزير المالية
الدكتور ابراهيم العساف مؤتمراً صحفياً مساء يوم الأحد الموافق 1 يونيو 2014 م ،
في قصر المؤتمرات بجدة .
وفي هذا
المؤتمر أكد د. ابراهيم العساف ” أن السعودية تتمتع بخطوط دفاع في حال انخفاض
أسعار البترول”
وردّ على سؤال
” للاقتصادية” حول ” المدة الزمنية التي تحتاج إليها المملكة العربية السعودية
لتجد آثار التنوع الاقتصادي و اعتماد الميزانية الحكومية على القطاع غير النفطي”
قال معاليه : ” نرى تأثير ذلك بشكل سنوي من خلال الأرقام المعلنة وزيادة مساهمة
القطاع الخاص في هذا النمو ووصل إلى أقل من 60% و هذا يشير إلى تقدم كبير و تنوع
في القاعدة الاقتصادية ” .
ماهي خطوط
الدفاع التي يتحدث عنها الوزير لمواجهة انخفاض أسعار البترول ؟
خطوط الدفاع
لمواجهة سنامي ، انخفاض أسعار البترول كما تعبر عنها تصريحات الوزير هي خطين :
الأول:
الاحتياطات الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودية
الثاني: هي
مساهمة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي ، التي يقول الوزير أنه وصل إلى
أقل من 60%
سأحاول هنا
النظر في مدى قوة هذه الخطوط الدفاعية و قدرتها على إيقاف أو الحد من الآثار
السلبية أو المدمرة لانخفاض أسعار البترول، خصوصاً إذا كان الانخفاض كبيراً ، و
لمدة طويلة . الآثار المباشرة و غير المباشرة للانخفاض الحاد في أسعار البترول على
الاقتصاد الوطني ، ستكون موجعة لأن الإنفاق الحكومي الذي هو العمود الفقري لحركة
الاقتصاد السعودي ، قائم في حدود 90% على الإيرادات النفطية التي يعتبر سعر
البرميل أحد أعمدتها الرئيسية .
فهل خطوط
الدفاع التي يقول وزير المالية أنه معتمد عليها قادرة على حماية الاقتصاد الوطني
من الهبوط الحاد ، ومعه دخل المواطنين و ما يحتاجون من خدمات و سلع ؟
فليسمح لي
معالي الوزير أن أقول أن خطوط الدفاع كما أراها، هي خطوط دفاع ، لن تستطيع
حماية الاقتصاد الوطني ، إذا هبطت أسعار البترول بشكل حاد و ظلت منخفضة لأمد طويل
وها هي حجتي :
أولاً : الأرصدة الأجنبية (استثمارات) مؤسسة النقد العربي
السعودية بلغت 681 بليون دولار أمريكي حسب بيانات معهد الصناديق السيادية بواشنطن
كما نشرته جريدة الرياض بتاريخ 5 يونيو 2014 م ، أي ما يعادل 2,6 ترليون ريال
سعودي .
و السؤال هنا ،
هل يكفي هذا الرصيد في الدفاع عن الاقتصاد الوطني من هجوم قوي يحدثه انخفاض قوي في
أسعار البترول ؟
الإجابة : نعم
سيحمينا خط الدفاع هذا ، من الآثار السلبية لانخفاض أسعار البترول لسنوات معدودة ،
ولكن السؤال الأهم ، هل هذه الحماية مؤقتة أو حماية مستديمة قائمة و فاعلة مادام
الخطر قائم ؟ و الإجابة هنا ، بكل وضوح ، هي حماية مؤقتة لسنوات ليست كثيرة . ليس
المهم هنا عدد السنوات و أنت تحت الحماية المؤقتة ، المهم أن حمايتك مؤقتة وبعدها
تزول الحماية و ينكشف الغطاء و تقف تخت الشمس في العراء .
يبدو أن هناك
تمازجاً وتقارباً في الرأي بين فكر معالي الوزير ، وبين نصائح و إرشادات صندوق
النقد الدولي ، فقد ورد على لسان السيد تيم كالفين رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في
السعودية ، كما أوردته ” الاقتصادية” بتاريخ 22 مايو 2014 م قوله : “بالفعل توفر
الاحتياطات الوقائية المالية الكبيرة التي ادخرتها الحكومة على مدى العقد الماضي ،
حماية كبيرة للاقتصاد في حالة مواجهة صدمة سلبية مثل هبوط أسعار النفط و ينبغي
الحفاظ عليها” .
هل ما يحتاجه
الاقتصاد السعودي ، هو حماية مؤقتة لمواجهة الصدمات السلبية ؟ أم يحتاج أن يكون في
بنيته الأساسية و إنتاجيته القطاعية و الفردية ، ما يؤمن له تنمية و إيرادات
مستدامة ، قوية البنيان ، توفر حماية حقيقية لمستقبل الاقتصاد الوطني و المواطنين
. أي اقتصاد وطني معرض للصعود و الهبوط ، ضمن حدود مقبولة ، لكن الحماية
الحقيقية له من الصدمات القوية لن تكون إلا بتنويع القاعدة الإنتاجية و زيادتها .
أما اقتصادنا الوطني فالقاعدة الأساسية أو الكبرى التي تدر إيراداً يمول الإنفاق
الحكومي ، ويدير عجلة الاقتصاد و الدخل الوطني و الفردي، هو البترول ، و البترول
مصاب بداء عضال ذو شقين :
1-
أنه مصدر ناضب اليوم أو غداً ( أعلن رئيس الوزراء الجزائري الجديد قبل عدة أيام ،
أن بلاده لن يكون لديها نفط تعتمد عليه بعد العام 2030م ، أي بعد 16 عام ، وقد
كانت الجزائر في يوم من الأيام من كبار المصدرين للنفط الخام ) .
2-
إن سعر البترول ، يعتمد كلياً ، على الطلب العالمي ، وجميع دول العالم الصناعي أو
التي على طريق النمو تعمل بكل جهد وجد على الحد من استهلاك النفط و البحث عن بديل
محلي .
أمام هذا الخطر
المستقبلي الكبير ، مادام اعتمادنا على النفط كبير ، هل يجوز أن نوكل مستقبل الأمة
، على خط دفاع من 681 بليون دولار، ونحن نعلم أنها يمكن أن تتلاشى في بضع سنوات؟
ثانياً : فيما يخص تنويع مصادر الدخل التي أشار إليها معالي
الوزير و التي أوجزها في مشاركة القطاع الخاص و التي قال أنها أقل من 60% ، فإنني أقول
لمعاليه ، إن القطاع الخاص و كما سبق أن قلت ، إن هو إلا في مراحله الحالية ، إلا
رضيع يتغذى من ثدي أمه ( القطاع الحكومي ) حليباً على هيئة مشاريع حكومية ، يعيش
عليها. القطاع الخاص يعتمد بشكل رئيسي في إنتاجه و حركته على الإنفاق الحكومي ، و
الإنفاق الحكومي يمول بشكل أساسي من إيرادات الدولة البترولية ، وهكذا تدور
الدائرة و تنتهي عند الإيرادات البترولية .
إذن يا معالي
الوزير ، خطوط دفاعك لحماية الاقتصاد الوطني ضعيفة مؤقتة غير مستدامة . أما خطر
انخفاض أسعار البترول وقدرتنا على التصدير فهو كبير وواقع لا محالة إن
عاجلاً أم آجلاً . فهلا أعدت النظر في الموضوع و استشعرت الخطر الذي يمكن أن يحل
بهذه الأمة في القادم من أيامها و إن كانت بعيدة بعض الشيء .
الاقتصاد
الوطني يا معالي الوزير يحتاج إلى هيكلة جذرية و كلية ، تعيدنا إلى الاتجاه الصحيح
، تأخذنا من الاستهلاك إلى الإنتاج ، ومن الإسراف إلى الادخار ، ومن البطالة إلى
العمل ومن الاعتماد على النفط إلى الاعتماد على رأس المال الوطني المنتج البشري
وغير البشري .
يا معالي
الوزير إما الإصــلاح و إما الطوفان .أما خطوط دفاعك ، فإنها لا تحمي الوطن و
الأجيال القادمة من الغرق لا قدر الله .
لكي لا تتوقف أعياد الوطن حذاري من المستقبل الاقتصادي[14]
15 /10/2014م
يحتفل الشعب السعودي بعيد الوطن الرابع بعد الثمانين يحدوه
الأمل بمستقبل أمن ورفاهية اجتماعية واقتصادية أفضل مايقدمه المواطن لوطنه في مثل هذا اليوم
هو الصدق في القول وفي المشاعر .يري المرأ الكثير من الوجوه الصادقة في
قولها ومشاعرها ولكنه و بدون الدخول في قلوب الناس يلحظ المرء شي من
النفاق الإعلامي والاستغلال التجاري لهذه المناسبة لدى البعض ، صحف تلاحق الشركات
للإعلان عن فرحتها باليوم الوطني وأقلام تجتر كلماتها وجملها من قواميس المديح
شعرا ونثرا دون ان تمر خطاباتها علي ضمير وطني يصفيها وينقيها من شواءبها .
ورغم هذا وذاك فهناك فرحة وهناك أمل لدي الكثيرين .
في هذا اليوم الوطني انتابني فرح وانتابني خوف . أنا فرح
لان كل من حولي فرح با الأمن والاستقرار خصوصا وان النيران والمعارك يتطاير شرارها
من وراء الحدود وفي كل الاتجاهات وانا خاءف وجل لان المستقبل يحمل بين
طياته علامات استفهام كبيرة لم اجد لها اجابة شافية.
المستقبل يلفه الغموض في ثلاث أمور جوهرية
وأساسية هذه الأمور هي :
١ .عدم وضوح الروءية السياسية والدستورية المستقبلية
فيما يتعلق بنظام الحكم المحلي وفيما يتعلق بالمؤسسات السياسية واهمها
الحكومة ومجلس الشورى والمؤسسة القضائية .
٢. الخوف من مستقبل الاقتصاد الوطني وقدرة
الاستراتيجية والخطط الاقتصادية الحالية علي تحقيق تنمية اقتصادية عادلة متوازنة
ومستدامة
٣.عدم وضوح دور المؤسسة الدينية الاجتماعي
والسياسي في ظل صراع بين الحداثة والاعتدال من جهة والتطرف الديني من
جهة اخرى .
هذه القضايا الجوهرية الثلاث خصوصا في بعدها الزمني
المستقبلي تعتدي كل يوم ولحظة علي هدوء النفس والطمأنينة لكل من لا يري في
الكوكب الأرضي مرسا لسفينة حياته الا على هذه الارض التي للصحراء منها نصيب الأسد
.اما اولئك الغير مكرهين الذين يستطيعون العيش في اي مكان فمستقبل هذا
الوطن قد لا يعنيهم كثيرا ، فهم ينعمون اليوم بخيرات البلاد وعندما يتغير الحال
فارض الله واسعة يهاجرو فيها .
أما بالنسبة للأجانب فكل له وطنه ولم
اجد الكثير منهم الذي يحلم بان يكون هنا وطنه ، وكما جاءونا
زرافات فسوف يتركوننا جماعات عندماتصبح أوضاعنا الاقتصادية والمالية
غير مناسبة لهم . وهذا حقهم فهم هنا من اجل الوظيفة والمال .ما يعنيهم
هو حجم الميزانية وحجم الإنفاق وحجم المشاريع وماهو نصيبهم منها . ه المواطن تهمه
ايضا هذه الامورلكن الفرق بينهما ان المواطن المسكون بهاجس المستقبل وهمومه
ينظر الي الحاضرالي حجم الميزانية وحجم الانفاق لكنه ايضا يفكر في المستقبل
ويتسائل هل سيكون هناك مال واقتصاد وطني يؤمن حاجة اطفالي وابنائ اطفالي
الاساسيه من فرصة عمل وماوى ومعيشة وصحة وغيرها ويسأل ايضا هل سيكون لدى
الدولة ايرادات في المستقبل تمول بها الإنفاق المتزايد للاجيال القادمة .
أعود الي المستقبل وأهله وأقول اننا اذا أردنا لافراح
الوطن وأعياده ان تستمر فعلينا الا نغفل لحظة عن المستقبل وهنا أجدني مظطر
الي الحديث عن الجانب الاقتصادي في معادلة المستقبل الثلاثية التي أشرت اليها في
مقدمة المقال .
الاقتصاد هو عامل هام وأساسي في تأمين حالة استقرار
مجتمعية يمكن منها وعليها بناء تنمية شاملة مستدامة اذا توفرت الإرادة السياسة
والتخطيط المنهجي العلمي السليم والقرار الحاسم . القاعدة الاقتصادية يقوم
عليها مشروع السعادة والرفاهية المادية الفردية والمجتمعية . والرفاهية المادية
ممثلة في العيش الكريم القائم على الانتاج والادخار والاستهلاك هي حاجة
طبيعية غريزية في الانسان , المكون الاساس للمجتمع . وغريزة البحث عن
الرفاهية المادية المشروعة واستدامتها من خلال الادخر واعادة الانتاج هي من
اهم قواعد النظام الاقتصادي الحر . ان صلح الاقتصاد صلحت به ومعه أمور كثيرة
سياسية واجتماعية وان فسد فسدت أشياء كثيره.
قلت في هذا الموضوع كثيراً وعلي مدي سنين طويله واجدني
مرغما في العودة اليه مرارا وتكرارا لان ما أراه كمختص يقلقني كثيراً وهذه بعض
النقاط الاستدلالية للخوف من المستقبل
- النمو السكاني يتزايد بشكل مقلق وفي كل دقيقة يضاف الي
أعداد السعودين مئات الالاف من المواليد الجدد
- زيادة النمو السكاني تفرض زيادة في الإنفاق الحكومي ، في
التعليم في السكن في الصحة في المياه في الكهرباء الخ الخ
- ضعف الانتاجية لدي المواطن لاسباب عديدة اهمها ضعف المكون
العلمي في المنهج التعليمي والتجريبي للطالب يقابلها تضخم في الاستهلاك
وضمور في الادخار
- شح متزايد في المياه يقابله هدر للموارد الطبيعية المائية
وتكلفة عالية لتحلية المياه .
- ارتفاع معدلات الانفاق الحكومي الاستهلاكية والاستثمارية
وتزايد المشاريع العملاقة التي قد لا تكون لها جدوي اقتصادية مباشرة علي خزينة
الدولة .
- ارتفاع معدلات الانفاق على الدفاع والأمن
فالمملكة مساحتها شاسعة وأطرافها مترامية
- المصدر الوحيد الذي يمول اكثر من 95% من ميزانية
الدولة للانفاق علي كل ما ذكر اعلاه او لم يذكر هوالبترول الذي يستخرج من
باطن الارض ويصدر خاما او مكرر. هذا البترول العمود الفقري للاقتصاد السعودي
الحكومي والخاص هو مورد متناقص سوف ينتهي بلا شك ان عاجلا او اجلا .
اي مواطن وبشيء من المنطق يستطيع ان يستنتج من
الحقائق الاحصائية الموضوعية اعلاه ان هناك خلل حقيقي -structural -
في توازن المالية العامة للدولة ، فكل البنود والأبواب والعناصر
المتعلقة بالإنفاق الحكومي هي متزايدة متراكمة سنة بعد اخري بينما العامل
الوحيد الاوحد الممول لكل عناصر الإنفاق هو البترول ذو الطبيعة
والخاصية المتناقصة علي الامد البعيد . البترول مادة لزجة سوداء تكونت من
صهر بقايا حيوانات واشجار وغيرها بفعل الحرارة الشديدة في الطبقات الجوفية
في الارض عبر ملايين السنين لذي فاننا نحتاج الي ملايين اخري من السنين
لتكوين برميل من خام البترول , بيت القصيد ان كل برميل يستخرج من احتياطاتنا
الوطنية البتولية تحت الارض يستحيل اعادة انتاجه . اما استكشاف حقول نفط
سعودية جديدة ذات اهمية فكل البيانات تشير الى انه لا وجود لها .لذى فانه يمكن
القول ان الاتجاه الوحيد لمخزوننا البترولي مستقبلا هو التناقص بفعل الاستخراج
الذي يصل الي عشرة ملايين برميل يوميا . وهذا ما يجعلني أقول واردد القول ان
المالية العامة للدولة التي تشرف عليها وتديرها وزارة المالية غير متوازنة لانها
عرجاء تقف على قدم واحده هي البترول وانها غير مستدامه لان لمورد الاساسي الذي
تعتمد عليه ناضب.
لذى فانني اقول ان الايرادات الحكومية المستقبلية ستكون
عاجزة عن تمويل الانفاق الحكومي المتزايد مع زيادة عدد السكان ونضوب الموارد
الطبيعية من بترول ومياه . ( لمزيد من التفصيل الاحصائي والرياضي انظر كتابي
باللغة الانجليزية الايرادات والانفاق الحكومي في المملكة العربية السعودية
, خطر في مرحلة التكوين ز 2013 و الطبعة العربية ستصدر قريبا)
انه لمن المحزن بل المؤلم جداً ان ارقام المالية
العامة تظهر ان لدينا فائضا ماليا سنويا ومتراكما وليس عجزا,
وهذا لعمري خطاء اقتصادي فادح أضراره سوف تدفعها الأجيال القادمة . ومعلومق هامة
واستراتيجية يجب بيان حقيقتها لولي الامر. حقيقة الامر اننا نعيش عجزا ماليا نموله
من استهلاك راس المال الوطني ممثلا في الاحتياطيات البترولية التي هي
ليست ملكا لهذا الجيل وحده ولكنها ملك أيضاً للأجيال القادمة . لو كان المورد
البترولي دائم مستديم لهان الامر وانتهي الخلل في التوازن لان اي زيادة في الإنفاق
سيمولها إيراد بترولي مستديم لكن هذا ضرب من الخيال وخطاء فادح ، فالبترول
مهدد مستقبله بالنضوب وبتقلب الأسعار.
حاضرنا الاقتصادي ومستقبلنا كما يبدو اليوم
قائم ومبني علي قاعدة واحدة هي القاعدة البترولية. فان اهتزت او سقطت هذه
القاعدة وهي لا محالة فاعلة فإننا سوف نهوي معها .وهنا مكمن خوفي ووجلي من
المستقبل
لا اجد في اليوم الوطني هدية أغلى من كلمة حق أقولها لصاحب
القرار وراعي مستقبل الأمة جلالة الملك عبدالله ابن عبدالعزيز :أقول له حذاري
حذاري من المستقبل الاقتصادي فاقتصادنا يا جلالة الملك سفينة مخروقة يدخلها
الماء قليلا قليلا وان لم نحكم قفل هذه الثغرات في سفينتنا بقيادتك
والمخلصين من حولك فإنني اخشى علينا جميعا من الغرق .
ماهو الحل ؟
ارادة سياسية قادرة وفاعلة تعيد قراءة وتمحيص الاستراتيجية
والخطط الاقتصادية التي يسير عليها اقتصدنا اليوم .
من يقوم بالقراءة ؟
اهل اختصاص علمي في الاقتصاد والبترول والمالية ليس من
بينهم اي موظف حكومي , بل ثلت تختار علي المستوى الوطني والعالمي يتوفر لها كل
الصلاحية في الحصول علي اي معلومة وعلي طرح اي سؤال والحصول علي الاجابة .يكون
لهذه المجموعة رئيس ونائب وسكرتارية وميزانية مستقلة عن اي جهة حكومية.
من يختارهم ؟
المؤسستان الدوليتان البنك الدولي للانشاء والتعمير وصندوق
النقد الدولي بموجب اتفاقية لادارة هذا المشروع دون التدخل في صياغة
النتائج . الاتفاقية تكون بين راس الدولة ممثلا بجلالة الملك ورئيسي البنك الدولي
والصندوق .
هدف الدراسة
دراسة الواقع الاقتصادي للملكة العربية واعداد استراتيجية
اقتصادية بخطوط واضحة للمستقبل الاقتصادي يراجعها مجلس الوزراء والمجلس الاقتصادي
الاعلي ومجلس الشوري , ومن ثم يتم اعتمادها من قبل مجلس الشوري لتصبح الاساس الذي
تبني عليه الخطط الاقتصادية والميزانيات السنوية.
هذه وجهة نظر وقد تحتاج الى اضافة اوحذف لكن ماهو واضح وضوح
الشمس في رابعة النهار ان النهج الاقتصادي الذي نسير عليه يهدد مستقبل الامة
واستقرارها السياسي والاجتماعي وهذا يتطلب من وجهة نظري تدخلا سياسيا على اعلى
المستويات لفحص الامور واعادة النظر في واقع الحال استعدادا لمستقبل قد لايكون سهل
كسهولة الخمسين عاما الماضية التي عاشتها المملكة في ظل الايرادات النفطية الوفيرة.
عندما يهتز النفط لابد من الخوف على الاقتصاد السعودي[15]
9 /12/2014 م
مقدمة
النفط مادة تدخل
في مكونات عديدة من سلع وخدمات لكنها بالنسبة للطاقة فهي لا تزال المصدر الأساسي
الذي يزود العالم بشقيه الصناعي المتقدم أو السائر في طريق النمو الاقتصادي
بالطاقة. ولا غنىً لأي دولة عن استهلاك النفط سواءً حصلت عليه من مصادرها المحلية
أو باستيراد ما ينتجه غيرها من دول العالم الأخرى. النفط مورد طبيعي يوجد على
مسافات مختلفة تحت الأرض في حواضن جيولوجية من آلاف السنين نجم عن انصهار
البقايا الحيوانية والزراعية تحت درجات حرارية عالية حولت المواد الصلبة هذه إلى
سائل أسود اللون هو النفط، يصاحبه غاز يسمى الغاز المصاحب خلافاً للغاز الذي يوجد
في مكامن أرضية ليس بها نفط ويسمى الغاز الجاف. والنفط مادة لا يمكن إعادة إنتاجها
فالبرميل من النفط الذي يستهلك ينتهي إلى الأبد لذا يُنعت النفط بأنه مادة ناضبة Non Renewable
يُوجد النفط في
أماكن كثيرة من العالم لكن استخراجه صعب ومكلف إلا في مناطق محددة من العالم حسب
تقنية وآلية الاستخراج المتوفرة حالياً ومن هذه المناطق المملكة العربية السعودية.
وكما يوجد النفط في بحيرات وآبار لا يحتاج الأمر إلا إلى مد أنبوب يصل إليها، فهو
أيضاً موجود في مسام تكوينات جيولوجية مثل النفط الصخري Shale Oilوالرمال النفطية
Tar Sand
وتسمى بالمصادر غير التقليدية للنفط .
للنفط سوق عالمي
يباع فيه على آجال مختلفة قصيرة، ومتوسطة وطويلة المدى وقد كان لدول الأوبك، وفي
مقدمتها السعودية، دور هام في تحديد سعر البيع و حجم العرض ولكن هذا الدور
ضعف كثيراً وحل محله شركات النفط العالمية والمضاربون في السوق النفطية. سعر النفط
متذبذب لأسباب عدة بعضها اقتصادي ويتعلق بعوامل العرض والطلب وبعضها تقني يتعلق
بتكلفة الإنتاج وبعضها يتعلق بأمور جيوسياسية وأزمات عالمية. وفي خضم هذه
المتغيرات فأنه في ظل الظروف الاقتصادية والتقنية الراهنة فأن الاتجاه العام
لأسعار النفط على المدى البعيد تصاعدي ما لم يحدث تغيير جوهري وبنيوي في عالم
الطاقة بشكل عام والنفط بشكل خاص يؤدى إلى تقلص دور النفط كمصدر أساسي للطاقة أو
إلى تخفيض تكلفة إنتاجه عالمياً إلى مستويات منخفضة وزيادة حجم المعروض منه بكميات
كبيرة تفوق حجم الطلب عليه على المدى الطويل.
السعودية والنفط
هبوط سعر
البترول في النصف الأخير من العام 2014م إلى حدود 40% من مستواه في
شهر يونيو من هذا العام 2014، هو في نظري مرحلة ودورة عابرة من دورات سوق النفط
العالمي, أسبابه اقتصادية تعود إلى زيادة في العرض وشح في الطلب إلى جانب عوامل
أخرى. وقد يكون القرار في إبقاء السعر على ما هو عليه وعدم الدفع به إلى أعلى من
خلال تخفيض الإنتاج قرار آني صائب إذا افترضنا أن السعر المنخفض سيقود إلى تحجيم
وردع المنتجين الجدد من المصادر النفطية غير العادية مثل النفط الصخري أو النفط
الرملي. وهذا يعتمد علي مرونة العرض Supply Elasticity
بالنسبة لخارطة السعر أي على حساسية إنتاج النفط الصخري لمستوى السعر المنخفض (70
دولار للبرميل) فإن كانت مرونة العرض عالية أي أن العرض من البترول الصخري حساس
لمستوى السعر, انخفض العرض من النفط الصخري، أما إن كانت مرونة العرض منخفضة أي
أنه منخفض الحساسية فإن انخفاض السعر لن يكون له أثر كبير على كبح حجم الإنتاج من
النفط الصخري. تشير تحاليل تكاليف الإنتاج للزيت الصخري والتي تقدر في المتوسط
بحدود 85 دولار أمريكي للبرميل إلى أنه على المدى المتوسط، سوف تتعرض هذه الشركات
الصغيرة لضائقة مالية تؤدي إلى توقفها عن الإنتاج أو إلى استحواذ الشركات النفطية
الكبرى عليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عامل التقنية المتعلق باستخراج النفط
الصخري من مكامنه له دور أساسي وهام في خفض تكلفة الإنتاج وزيادة العرض. لذا فأن
مستقبل النفط الصخري التنافسي يعتمد بدرجة كبيرة على العوامل التقنية
التي تؤدي إلى خفض تكلفة الإنتاج إضافة إلى العوامل المتعلقة بالبيئة.
إنه من الواضح أن السعودية تقود جبهة خليجية لخفض الأسعار أو الحد من ارتفاعها
والسؤال هنا: هل هذه سياسة سعرية الهدف منها قصير الأمد، وهو المحافظة على
العملاء وعلى حجم المبيعات من أجل تمويل النفقات الحكومية، أم إنها سياسة سعرية
تهدف إلى تعظيم العوائد من النفط السعودي علي المدى البعيد وذلك بالحد من نمو
وزيادة كميات المنتج من الزيت الصخري أو زيت الرمال وذلك بجعل الاستثمار طويل
الأجل في هذا المجال غير مربح . الجواب على هذا السؤل عند وزير البترول السعودي .
حركة سعر
البترول المؤقتة والمرحلية لا تعنيني كثيراً بقدر ما يعنيني البعد الزمني طويل
الأجل للنفط سعراً وإنتاجاً ومدى ارتباط مصير المملكة الاقتصادي به وبحاله. كل دول
العالم تحتاج إلى النفط وتعتمد عليه كمصدر أساسي للطاقة وعلى وجه الخصوص تلك الدول
الصناعية، لكن النفط بالنسبة للمملكة العربية السعودية ليس مجرد مصدر مهم من مصادر
الطاقة يساهم إلى جانب عوامل وموارد أخرى في حركة الاقتصاد ونموه، بل إنه – أي
النفط – هو الاقتصاد السعودي بشحمه ولحمه وعظمه, وهنا مربط الفرس
ومكمن الخطر. لذا فإنني أقول، وكما قلت سابقاً , إن تعرض النفط لتغيير هيكلي جوهري
يهمش الدور الهام للنفط في منظومة الطاقة العالمية ويهوي بأسعاره إلى الحضيض
ولأمد طويل، وبقي الاقتصاد السعودي على بنيته الحالية ووضعه الراهن، فإن المملكة
العربية السعودية سوف تتعرض لأزمة مالية حادة في الأمد الطويل ( المستقبل) تتعدى
أثارها الجوانب الاقتصادية لتشمل نواحي الحياة الأخرى. هناك دول خليجية وعربية قد
تتعرض لما يمكن أن تتعرض إليه المملكة ولكن هذا شأنهم، أما ما يهمني ويشغل فكري
فهو حال ومستقبل الاقتصاد السعودي. كما أن هناك دول أخرى منتجة ومصدرة للنفط لن
تتعرض لكارثة مالية واقتصادية إن أصاب النفط مصيبة كبرى ودائمة، هذه الدول
ليست كالمملكة العربية السعودية فإيراداتها النفطية ليست هي المصدر الأساسي
لإيراداتها الوطنية التي منها يتغذى وعليها يعيش الاقتصاد الوطني وكل ما يرتبط به
من استثمار واستهلاك وخدمات ووظائف، كما أن لدى هذه الدول موارد بشرية وصناعية
وزراعية وخدمية منتجة تستطيع أن تحل رويداً رويداً محل النفط كمحرك لعجلة الاقتصاد
ونموه.
من يظن أن هذه
هي حالنا في المملكة العربية السعودية ففكره واهم وسياساته قصيرة الأمد. النفط
بالنسبة لأجيالنا القادمة ومستقبل هذا الوطن هو مسألة وجود، إن هبط سعر النفط وهوى
بشكل كبير ودائم ونحن على ما نحن عليه تعرضت حياتنا للخطر. النفط بالنسبة للمملكة
العربية السعودية هو قضية وجود وليست سلعة تترك للعواصف والعواطف السياسية أو تترك
لرياح السوق العالمية ومضاربيها وشركاتها ليكون لها القول الفصل أو الراجح في
تحديد المعالم الأساسية والإستراتجية لاستغلال النفط السعودي. هذا النفط هو ملك
لهذه الأمة من الأجيال الحاضرة والقادمة وهذه البلاد التي للصحراء نصيب كبير
من أرضها، مياهها نادرة ومتناقصة وسكانها يزدادون كل يوم وحاجاتهم وأحلامهم تتزايد
وكل ما يملكونه اليوم من سلعة تباع في السوق العالمي هو النفط الذي يؤمن أكثر من
90% من العملات الصعبة للدولة وبهذه العملات الصعبة يتم شراء السلع والخدمات
الأجنبية التي تشكل الجزء الأكبر للاستهلاك والاستثمار الذي يقوم عليه الاقتصاد
ويعيش عليه المواطنون الأغنياء منهم والفقراء. هذا المنظومة الاقتصادية تكفي
لوحدها لرسم ملامح المشكلة الكبرى إن غابت شمس البترول شيئاً فشيئاً ونحن
على مقاعدنا منتظرون. أما الفوائض المالية والتي تقدر بحوالي 700 بليون دولار
أمريكي فهي نقطة في محيط الحاجات المستقبلية لهذه الأمة إن تقلصت إيرادات البترول
قبل أن نوجد البديل، فهذا الفائض لا يكفي لسد حاجاتنا الاستهلاكية والاستثمارية
لسنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
لاشك أن هناك من
يرى في هذا الرأي غلواً وشططاً ولعمري ليت رأيهم هذا صحيح، لكن الاستقراء المستمر
لمصادر الإيرادات العامة للدولة وأهمها إيرادات النفط ومجالات الإنفاق الحاضرة
والمستقبلية في ظل السياسات والإستراتجيات الاقتصادية الحالية وما يصاحبها
من إنفاق وهدر وفساد مالي وإداري علي أرض الواقع، ينبئ بالخطر القادم وبأن
العجز المالي للدولة قادم ولو في الأمد الطويل إن لم يهيئ الله لنا من أمرنا
رشداً.
في مقال بتاريخ
15/10/2014م بعنوان (لكي لا تتوقف أعياد الوطن حذارى من المستقبل الاقتصادي) وقبل
الهبوط الأخير لأسعار النفط قلت إنه لابد من فحص الإستراتيجية الاقتصادية للبلاد
التي نسير عليها اليوم علي ضوء الواقع ومتطلبات المستقبل، فالنفط هو القاعدة التي
يقوم عليها الاقتصاد الوطني بشقيه العام والخاص وبشكل شبه كامل، لكن هذه القاعدة
ناضبة فانية غير متجددة مهما كانت كمية الموجود من النفط تحت أرضنا. أسعاره – أي
النفط – متأرجحة ذات اليمين وذات الشمال بفعل أمور كثيرة اقتصادية وتقنية وسياسية
لا نملك السيطرة عليها أو حتى إدارتها بينما مصيرنا ومصير أجيالنا معلق بسعر
البترول والإيرادات الحكومية المتحققة من بيعه في الأسواق العالمية. إن كنا
لا نستطيع السيطرة علي مستقبل سوق النفط العالمي وأسعاره والمعروض أو المطلوب منه،
ونحن فعلا لا نستطيع، فعلينا التحكم بما نستطيع عليه.
رغم أن العالم
قرية اقتصادية كما يقال إلا أن المصلحة الوطنية لكل دولة هي المحور الأساسي الذي
تقوم عليه سياساتها واستراتجياتها الاقتصادية وهذا أمر لا غبار عليه وتجاهر به كل
الدول، فليس من المقبول لدى أي شعب أن تضحي دولته بمصالحه الاقتصادية من أجل مصالح
الدول الأخرى وشعوبها. من هنا أقول إن النفط مهم للعالم وخصوصاً الدول الصناعية،
يجاهدون سياسياً واقتصادياً من أجل الحصول عليه بأبخس الأثمان كما كان عليه الحال
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وهم في فعلهم هذا يعملون
علي تحقيق مصالحهم الوطنية وهذا من حقهم, لكنه وبنفس المنطق فانه من حقنا العمل
اقتصادياً وسياسياً على تعظيم الفائدة من استغلال النفط وهو رأس مالنا الطبيعي
الأكبر والأهم وفي هذا تحقيق للمصلحة الوطنية الراهنة والمستقبلية.
تأسيساً على ذلك
أعيد طرح مجموعة من المرتكزات الأساسية لإستراتيجية اقتصاديه تؤدي إلى إعادة
هيكلة الاقتصاد السعودي ليكون قادراً علي مواجهة المستقبل المجهول للنفط من خلال
دعم وبناء رأس المال المنتج البشري والطبيعي وكبح جماح الإنفاق الاستهلاكي غير
الضروري وغير المنتج والعمل الجاد من أجل بناء اقتصاد سعودي قائم على الإنتاجية
الفردية والجماعية وعلي موارد طبيعية وصناعية منتجة تشكل مصدراً هاماً ومتنامياً
من الإيرادات غير النفطية ليقل ويتوازن اعتمادنا المستقبلي المطلق علي النفط
ومشتقاته. وفيما يلي أهم هذه المرتكزات :
1. تعظيم
الاستفادة من النفط
نقطة البدء هي تعظيم
الاستفادة من النفط المخزون تحت أراضينا لصالح هذا الجيل والأجيال القادمة وذلك
بالكف عن هدره في الاستهلاك المحلي غير المنتج أو في تصدير كميات تزيد قيمتها عن
حاجاتنا التنموية الحقيقية والحاجة إلي التأثير في السوق النفطية العالمية، بما
يضمن تعظيم مصالحنا من استغلال خام النفط المخزون لدينا. لقد نتج عن الزيادة في
استخراج النفط لصالح دول العالم الغربي بشكل عام، هذه الدول التي لم تكن مصالحنا
التنموية والسياسية شأن من شؤونها بل أن مصلحة شعوبها هي شأنها الأول، وجود فائض
مالي من الدولارات التي نكنزها في البنوك العالمية أو صكوك الدين الأمريكية بمرود
قليل ومخاطر سياسية عالية.
2. التركيز
على الاستثمار في الإنسان المواطن
وهذه أهم مجالات
الاستثمار في الإنسان :
أ- القضاء على
الأمية بشكل كامل بين الرجال والنساء.
ب- بناء نظام
تعليم جديد يقوم على أسس علمية ومنهجية تعتمد بناء العقل المفكر المبدع المستنبط
المستقرئ وليس العقل القائم على الحفظ والترديد والتكرار. النظام الذي أتحدث عنه
لابد أن يحدث ثورة في المنظومة العلمية مادة ومنهجاً ومعلماً ومعملاً. هذه
المنظومة لابد أن تكون كفيلة بخلق فكر جديد لإنسان جديد منتج مبدع يحل محل النفط
عندما ينفذ أو تهوي أسعاره، فالإنسان، رأس المال البشري لا يفنى بل يتجدد ويتمدد
وينتقل إنتاجه وإبداعه من جيل إلى جيل متراكماً بانياً لحضارة حقيقية إنتاجية لا
استهلاكية. هذا ما أعنيه بالنظام التعليمي وببناء عقل الإنسان المواطن وقدراته
الإبداعية والإنتاجية وليس ما نراه من برامج وبلايين تصرف لهيكلة تعنى بالقشور
وتتجاوز القيود والأغلال المطبقة على نظام التعليم بكل مراحله وأجزائه.
ج- القضاء على
حالة الفقر المادي والعوز في المدن والقرى فلا يمكن بناء عقل الإنسان وبطنه جائعاً
كما أن الفقر مدخل لكل العلل والجرائم ومدمر لكرامة الإنسان.
د- تأمين السكن
والعلاج الصحي والتعليم لمن كان فقيراً وتسهيل الحصول عليه لمن كان مقتدراً.
3- هيكلة
الإدارة الحكومية
الإدارة
الحكومية هي المحرك الأساسي والمدير والممول للاقتصاد السعودي، هذه الإدارة
الحكومية تحتاج إلى إعادة بنائها حجماً ونوعاً وسلوكاً وإنتاجية وانضباطاً بشكل
كبير وجذري من أجل التخلص تدريجياً من مواطن الفساد المالي والإداري ومستنقعاته.
كل الجهود الرامية إلى مكافحة الفساد والإسراع في تنفيذ المشاريع وترشيدها لن تؤتي
أكلها مادام الهيكل الأساسي للجهاز الحكومي قائماً على ضعف أو انعدام المساءلة
وعلى الواسطة والمحسوبية بدلاً من الكفاءة والإنتاجية.
4-القاعدة
الاقتصادية
بناء
قاعدة اقتصادية قائمة على صناعات وخدمات ذات جدوى اقتصادية منتجة وليست معتمدة
كلياً ونهائياً على الإعانات الحكومية أو الأسعار الميسرة للمواد الخام أو المياه
والوقود وغيرها. إن أي صناعة لا يعتمد بقاؤها طويل الأجل على قدراتها الإنتاجية
والتنافسية هي صناعة لا تضيف إلى الاقتصاد الوطني بل تأخذ منه وتستهلك أمواله التي
هي أموال الأمة. وعليه يجب إعادة تقييم صناعاتنا الحالية وتركها بعد أن تعدت مرحلة
الطفولة والبداية لتعيش من أرباحها بعد أن تدفع التكاليف الحقيقية لمدخلاتها من
خدمات ومواد أولية. الشركات التي مضى على قيامها زمن وهي لا تزال تعتمد بشكل أساسي
على الأسعار الميسرة للغاز والماء والكهرباء والأرض وغيرها من الإعانات المالية من
المال العام، لا تفيد الاقتصاد الوطني بل هي عبء عليه.
5- الإنفاق
الحكومي
وضع سياسة
وإستراتيجية للإنفاق الحكومي تقوم كلياً على جعل الإنفاق مرتبطاً بشكل أساسي
ومباشر بتحقيق عائد ملموس ومقاس متعلق برفاهية المواطن المادية والمعنوية، فبعض
المشاريع تشعرك بأن فوائدها لا تتعدى الشركات القائمة علي تنفيذها. هذا من حيث
أهداف الإنفاق ومناحيه أما بالنسبة للإجراءات المتعلقة بمشاريع الإنفاق وتكاليفها
واعتمادها (إعداد ميزانية الدولة) فحدث ولا حرج، لأنه أمر يحتاج إلى نفض غبار
الزمن عنه وإعادة بنائه على أسس علمية حديثة. ضبط الإنفاق وترشيده وحصره في ما
يعظم مصلحة المواطن بشكل مباشر وزيادة إنتاجيته هو الأداة المالية الأساسية التي
نستطيع من خلالها ضبط المالية العامة للدولة التي نستطيع عبرها التحكم في ما
نحتاجه من استخراج لاحتياطياتنا النفطية وضبط لإيراداتنا البترولية وهذا
يعطينا استقلالاً عن الحاجة المالية الملحة والأساسية للإيرادات النفطية
واستقلالاً في رسم السياسة النفطية التي تطيل من عمر أصولنا النفطية وتحقق العائد
الأفضل لنا ولأجيالنا من استغلالها.
6- بناء
قاعدة للإيرادات الحكومية غير النفطية
معظم الإيرادات
الحكومية التي تغذي الإنفاق الحكومي علي المشاريع والخدمات التي يحتاج إليها
المواطنون في حياتهم اليومية ويحتاج إليها الاقتصاد لإنتاج سلعه وخدماته من بنى
تحتية وغيرها, هي من الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم علي الخدمات أو السلع
التي تنتجها الدولة. لقد عاش المواطنون والقطاع الخاص منذ ظهور البترول كعامل
أساسي في حياتنا وزيادة الإيرادات الحكومية بشكل كبير بعد الارتفاع الكبير في سعره
عام 1973 بحبوحة مالية, كانت لها فوائدها عندما كانت تصل إلى المحتاجين من
المواطنين والى المشاريع الضرورية في المجالات الصحية والتعليمية والمواصلات
وغيرها, لكن أيضا كانت لها سلبيات كثيرة عندما كانت تصب في مشاريع غير ذات جدوى
ومصلحة مباشرة للمواطن أو توزيعات وهبات وإعانات لمن هم ليسوا في حاجتها أو
يستحقونها. كل هذا اليوم تاريخ مضى ترك من السلوكيات السلبية ما ترك، وما هو مهم
وضروري اليوم هو إيقاف الهدر والإنفاق غير المنتج وإعانة من يحتاج إلى إعانة من
المواطنين وتكليف القادرين من أصحاب المال والأعمال من كل المواطنين دون أي
استثناء لكبير أو صغير علي دفع التكاليف الحقيقية للماء والكهرباء والبترول, وهي
أهم مجالات الصرف علي الإعانات. عندما يضاف إلى ذلك ضريبة غير مباشرة علي السلع
الكمالية بكل أنواعها التي تستهلكها الطبقة الغنية ورسوم جمركية عالية، ضمن
القواعد والاتفاقيات الدولية التي وقعتها المملكة، على سلع يمكن إنتاجها محلياً
نكون قد وضعنا اللبنات الأولى لبناء قاعدة من الإيرادات الحكومية غير
النفطية يمكن تطويرها والدفع بها إلى أعلى شيئاً فشيئاً.
7- الصندوق
الوطني للادخار
بنية الاقتصاد
السعودي القائمة علي مصدر طبيعي ناضب متناقص هو النفط تحتم ضرورة إنشاء صندوق وطني
للادخار توضع فيه نسبة من الإيرادات النفطية ويتم استثمار أموال الصندوق داخلياً
وخارجياً في استثمارات آمنة مجزية. يقوم على هذا الصندوق هيئة وطنية مستقلة لها
نظام مستقل عن كل أجهزة الدولة. لا يصرف من هذا الصندوق إلا في حالات الكوارث
الوطنية. البداية لهذا الصندوق هي الفوائض المالية للدولة التي تديرها اليوم مؤسسة
النقد العربي السعودي والتي تبلغ في حدود 700 بليون دولار. هذا الصندوق هو من أجل تقليل
حجم المخاطر المستقبلية التي قد تنجم من أي تغير سلبي جوهري وطويل الأجل على
النفط، لذا يجب إبعاد يد الإنفاق الحكومي عنه. فعلى الدولة أن تتدبر أمرها في
تمويل ميزانيتها إما بالحد من الإنفاق وترشيده أو بزيادة حجم الإيرادات غير
البترولية أو غير ذلك. لذا فكلما أسرعنا في إنشاء هذا الصندوق كلما حمينا هذه
الفوائض اليوم من الإنفاق الحكومي.
8- الإرادة
السياسية
كل ما قلته
أعلاه مربوط ومرهون بإرادة سياسية عليا من صاحب القرار الأول والمسئول الأول جلالة
الملك، فبدون هذه الإرادة القائمة على القناعة التامة والخوف على مستقبل الأمة
والوطن المتبوعة بقرار حاسم لفحص ومراجعة القضايا الاقتصادية المفصلية والجوهرية
للتأكد من سلامتها وقدرتها على الصمود في وجه العواصف الاقتصادية الكبرى لكي يبقى
الوطن صحيحاً سليماً ويبقى المواطنون مطمئنون على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأبناء
أبنائهم والأجيال من بعدهم، لن يكون هناك إصلاح حقيقي فاعل يأخذ بالأمور الجوهرية
إلى منتهاها السليم وأهدافها الصحيحة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق